الاثنين، 22 أغسطس 2022

التطور التاريخي لآليات حل النزاع، الحرب في لبنان نموذجاً (1975- 1989) الفصل الأول

 رسالة اعدّت لنيل شهادة الماجستر في التاريخ الحديث

 إعداد وسام رعد


الفصل الأول

مفاهيم وآليات حل النزاع

 

مقدمة

لا تخلو أمة من ظهور صور ومظاهر متعددة للنزاع في بعض القضايا، ويختلف الناس أيضاً في سبل تعاطيهم مع النزاع عند وقوعه، فالرصيد الثقافي والتربوي بين الناس يختلف، وهذا بدوره يترك آثاراً حول سبل وكيفية إدارة النزاع والبحث عن حلول له، فالنزاع إذاً مظهر لتأزم العلاقات، وانسداد سبل الحل القائمة أو المتاحة، وهناك آثار تترتب على النزاعات؛ منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي، وللإنسان في إدارته للنزاع دور في تحديد ما يناسب من هذه الآثار، وللنزاع أسبابه المفضية إليه، وله أيضاً مراحله التي يمر فيها من بداية التأزم، إلى حدوث وخروج مظاهر النزاع، ونتائجه على السطح[1].

فلو دققنا النظر لوجدنا انه لا يوجد شخصان متطابقان شبها ً ومزاجاً ومشاعرا ً وتفكيرا ً فى كل الحالات والاحوال وفي كل الاوقات .فالناس يختلفون فى المزاج والهوى والغرائز والتطلعات والمقدرات والمزايا فلكل شخص شيء يميزه عن غيره،  ولولا هذا التنوع لكان من الصعب " إعمار الدنيا وقيام الحياة "ولهذا التنوع وجه آخر فكلمة النزاع ومفاهيمها من صراع واقتتال وتناحر وخصام وفرقة والدمار ومقاومة وتناقض وتعارض واختلاف وعدم اتفاق وخلاف هى كلمات تثير الخوف لما تحملها من معاني العداوة والبغض والتناحر والقطيعة والتوتر والعنف والدمار،  وكل المعاني السلبية.

فالنزاع بدأ منذ بدء الخليقة، ولم تقتصر حدوده على العشائر والقبائل والشعوب والدول والإمبراطوريات بل كنا نجده بين الأنظمة وشعوبها. كما نجده أيضاً في الصراع الوطني ضد الاحتلال، أو الصراع الطائفي والاثني والطبقي، كما أنه يشمل أيضاً مناحي الحياة جميعها، فنزاع الإنسان بدأ منذ طفولته في منزله وانتقل الى المدرسة، والشارع من ثم إنتقل معه الى الجامعة من ثم الوظيفة.

تفيد معطيات أكاديمية العلوم النرويجية: "أن الفترة من عام 3600 قبل الميلاد وحتى الآن، لم تشهد البشرية إلاّ 292 عاماً من السلام"[2].

لقد اتخذ النزاع مناخات سلبية (عنيفة) مدمرة وأخرى إيجابية (سلمية) مطورة واتجاهات عامة وخاصة، وشكلين داخلي وخارجي.

فالتنافس والصراع هي وقود التطور والإبداع والابتكار مثلا ً فى مجال الرياضة  ويشكل وقوداً ايضا ً لتجديد والتطوير فى مجال الزراعة ويشكل وقودا فى الاختراع  فى مجال الصناعة والتطور الفكري والانضباط السلوكي فى مجال السياسة.  كما يوجد التنافس السليم بين الدول، في المجالات العلمية والتقنية، كالأقمار الاصطناعية، غزو الفضاء، الاكتشافات العلمية التي تخدم مستقبل البشرية، وثورة الإعلام والمعلوماتية والاتصالات والمواصلات.

 وأما التنافس السلبي فكان في جوانب أخرى كتطوير الأسلحة النووية الفتاكة، والطائرات العسكرية المتنوعة المهام، والصواريخ النووية متعددة الرؤوس وعابرة للقارات لتدمير البشرية ككل.

فمن النواحي السلبية العنيفة، شهدت البشرية منذ أواخر القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين مجموعة من الحوادث المأساوية تركت أثراً كبيراً على حياة ملايين البشر على هذا الكوكب. ولا شك أن الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت من أبرز هذه الحوادث على الإطلاق، ليس من ناحية النتائج الكارثية التي خلفتها، على كثير من الأمم والشعوب، بل وأيضاً من ناحية التأثير على طبيعة العلاقات بين الدول. ففي أواخر القرن التاسع عشر على سبيل المثال لا الحصر، طالب الرئيس الأميركي "وليام ماكينلي" جنرالاته عام 1898، بتهدئة المتمردين الفليبينيين، حتى إذا استدعى الأمر إبادتهم عن بكرة أبيهم. تسلم أثرها الجيش الأميركي الأمر التالي: "احرقوا واقتلوا، فليس هناك وقت للأسر. وستكون الأمور أفضل كلما قتلتم المزيد. اقتلوا جميع من تجاوز العاشرة"[3]. وقد قتل ستمائة ألف فليبيني خلال ثلاثة أشهر.

وكانت الحصة الأكبر للأمور العنيفة المدمرة من نصيب القارة الافريقية فما حدث هناك يفوق كل الوصف". ففي القرن السابع عشر كان خمس سكان العالم  يعيشون في أفريقيا، وخلال سيطرة الاستعمار تقلصت نسبة السكان إلى عشر مجموع سكان العالم".

"وفي عام 1900 كان عدد السكان في الكونغو الفرنسية بين 12-15 مليون نسمة، فبقي منهم عام 1921، 2،8 مليون نسمة. وفي الكونغو البلجيكية كان يعيش فيها عام 1884، 30 مليون نسمة، فبقي منهم عام 1915، خمسة عشر مليون نسمة"[4].

وبعد كل هذا العنف الذي حصل خلال هذه السنوات نَمَت بعد الحرب العالمية الثانية مراكز الأبحاث الخاصة بقضايا الحرب والسلام ففي نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات رعت منظمة الأمم المتحدة مؤتمرات دولية وشجعت نشاطات متنوعة عائدة لقضايا النزاعات وطرق تسويتها. وعلى موضوع الحرب والسلم ركزت منظمات عديدة ومراكز أبحاث دولية نشاطها الجديد، وكرست أبحاثها وأعمالها.

حيث تشكل نظام دولي جديد بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 وأدى الى بروز نظام الثنائية القطبية بزعامة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأميركية، كأبرز قوتين على الساحة الدولية. وقد رافق ظهورهما بروز هيئات دولية تعنى بدراسة أسباب النزاعات وتلافي حدوثها مستقبلاً، والعمل على إيجاد حلول لها. وكان من أبرزها هيئة الأمم المتحدة.

فتأسست منظمة الأمم المتحدة في 26 حزيران 1945، ووقع على ميثاقها إحدى وخمسون دولة. ومن ثم انضم إليها الغالبية العظمى من الدول المستقلة في العالم.

حدّد ميثاقها المبادئ الرئيسية كمنظمة دولية جديدة، ومنها المساواة في السيادة بين جميع أعضائها. فض المنازعات الدولية بالطرق السلمية. الامتناع عن التهديد بالقوة أو استخدامها ضد الاستقلال السياسي لأية دولة أو سلامة إقليمها. عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ما[5].

لكن النزاعات استمرت، والأمم المتحدة انحازت إلى الولايات المتحدة الأقوى  والقطب الأغنى الذي يسهم في تمويلها أكثر من الدول الأخرى بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، التي تعاملت معها كإحدى مؤسساتها التابعة لإدارتها، تتحكم بها وتنتهج سياستها. فبدلاً من أن تكون مؤسسة دولية تعمل على حل النزاعات بين الدول والشعوب (حسبما جاء في الميثاق) وبين الدول ذاتها، وقفت إلى جانب الدول القوية والغنية في مواجهة الدول والشعوب الضعيفة والفقيرة. فكانت النتيجة أن تزداد النزاعات تفاقماً، وبات التدخل الدولي في الشؤون الداخلية للدول والشعوب سمة عامة طبعت العالم بأسره. ففي ظل سياسة الوفاق الدولي بين القطبين الاشتراكي والرأسمالي، وتطورهما التكنولوجي والتسليحي، وامتلاكهما أسلحة الدمار الشامل (الأسلحة النووية وغيرها الأكثر فتكاً ودماراً لهما وللبشرية جمعاء). حتم عليهما ذلك، الابتعاد عن الاحتكاك المباشر والصدام فيما بينهما، فانتهجا سياسة خوض الحروب بالنيابة، إلى جانب "الحرب الباردة". فدعم الاتحاد السوفييتي الحركات العمالية وحركات التحرر الوطني والديمقراطي في العالم. في الوقت الذي دعمت وساعدت أميركا، أنظمة عسكرية فاشية في كل من آسيا وأفريقية وأميركا اللاتينية[6].

ارتبطت دراسات حل النزاعات في مجالات أكاديمية، كالعلوم السياسية، والعلاقات الدولية وعلم الاجتماع وعلم النفس كما كان للإعلام والصحافة دور بارز في هذا المجال، وكان لإسهام عدد كبير من المفكرين في هذه المجالات دور كبير في بناء الأسس النظرية والأطر المنهجية لدراسات السلام والنزاع وسبل حلها.

تنامى الاهتمام خلال فترة الحرب الباردة بدراسة حل النزاعات نتيجة ظهور وانتشار حركات الاستقلال الوطني والديمقراطي والتّحرّر من الاستعمار والاحتلال والعنصرية، وازدياد الحركات المطالبة بحقوق العمال والنساء والأقليات في عقود الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، كالعنف والفقر والاضطهاد. وقد استدعى هذا الاهتمام.[7]

كانت الحياة اليومية في لبنان بين عام 1975 و1990 مسيطر عليها النزاع المسلّح والعنف السياسي على نطاق واسع والذي انعكس على الأفراد والجماعات المحلية في جميع أنحاء البلاد. وطال القتل والجرح والتهجير والاخفاء وشتى أعمال العنف الأخرى عشرات الآلاف من المدنيين، وقد كانت العديد من الجهات المحلية والدولية متورطة في تلك الانتهاكات. وكانت المحاولات دائمة لحل النزاعات بمختلف الطرق والأشكال وفي حين أن لبنان معرّض بالفعل للتأثر بالتوترات الإقليمية، فقد يكون من أسباب استمرار دائرة العنف هو الإخفاق في التعامل مع إرث الماضي بطريقة جدية ومستدامة[8] .

نشوء الاختلاف أو النزاعات بأنواعها قائمة بين البشر في كل العصور أو الأزمنة، لذلك كان من الضروري أن يتواصل البشر إلى طريق أو وسيلة أو مجموعة من الطرق التي يستطيعون من خلالها القيام بفض المنازعات     والنزاعات التي تنشأ بينهم، وذلك بهدف الحفاظ على الاستقرار أو الهدوء على كافة طبيعة العلاقات القائمة بينهم بأشكالها المختلفة سواء تلك التي تربط بين أشخاص وبعضهم أو جماعات وأخرى أو حتى دولاً.

1-  تعريف النزاع

لم يولد الإنسان ميال بطبيعته الى العنف والنزاع، ولكن نتيجة اكتساب عداءه من أجل البقاء وإستمرارية الحياة،  فقد سعى منذ بداية التاريخ الى مواجهة الحياة بقسوتها والصراع معها، من أجل تأمين معيشته، متطلبات حياته، عائلته، عشيرته، وقبيلته والمجتمع الذي يعيش به من غذاء وكساء.

إن الحضارات والمجتمعات تُعرف النزاع بصور عديدة من الناحية التحليلية، ويمكن تصنيف النزاعات إلى مستويات ثلاثة:

1-    نزاعات شخصية: هي تلك النزاعات التي تحدث بين الأفراد وذلك بخلاف النزاعات بين الجماعات.

 ومن نماذج تلك النزاعات هي تلك التي تحدث بين الأصدقاء أو بين أفراد الأسرة أو بين الرئيس ومرؤوسيه، وتنتج عن غيرة وحسد، بسبب تفوق طالب ما على أقرانه أو عامل تقني ما على زملائه. وقد يؤدي ذلك إلى تنافس تكون له نتائج إيجابية على الأفراد وعلى المجتمع وليس سلبية فقط[9].

2-    نزاعات طائفية ومذهبية داخلية بين جماعات وقوميات من ناحية وبين جماعات سياسية والنظام من ناحية أخرى، تشكل تهديداً له. فيمارس أعمال القمع والقهر والقتل والاعتقال ضدها درءاً لأخطارها. فتؤدي إلى حروب أهلية تدمر البشر والشجر والحجر. ونزاع مع عدو قومي محتل للأرض ومشرد للشعب من ناحية ثالثة. وعليه فإن النزاعات هي طائفية، مذهبية، طبقية، إنسانية، ديمقراطية، وطنية وقومية. فالنزاعات تشمل قضايا وأطراف لها علاقة بمجموعات معيّنة وتضم نماذج مختلفة من النزاعات، كالنزاعات العرقية والدينية والحزبية، وكذلك النزاعات بين قطاعات من الجماهير مثل: النزاعات بين النقابات العمّالية والإدارة، بين العائلات والقبائل، والصراع الطبقي بين السلطة السياسية، سلطة الطبقة المسيطرة اقتصادياً وبين الطبقات والفئات الاجتماعية الأخرى جميعها[10].

3-    نزاعات دولية: وتحدث هذه النزاعات بين الدول والشعوب في العالم وتتضمّن الاختلاف حول قضايا مثل الحدود الإقليمية والموارد الطبيعية ومناطق السيطرة والنفوذ وتقسيم العالم وإعادة تقسيمه من جديد، (الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية على التوالي)، وسباق التسلح وغزو الفضاء والممرات البرية والمائية والعولمة...

صرف الباحثون جهداً وزمناً مقدراً في تناول الأزمات، وسعوا كثيراً لتبيان أطر الأزمات، محتواها وجذورها. وانقسموا فيما بينهم، بين من اتخذوا منهجاً أولياً ايديولوجياً وأولئك الذين سعوا لتفهم وإيضاح دور البنى والهياكل والتكوينات والوحدات، ومن قدموا دراسة أمر العلاقات بين أطراف النزاع وغير هذا وهذا، آخذاً من وقتنا ما أخذ، فيه خير كثير وغني لتراثنا في مجال تفهم النزاع ومسبباته. فلا سبيل لشروع إجرائي في عملية فض النزاع دون الوعى بطبيعته ومداه ومدى حدته.

يقول د. كمال حماد: "النزاع موجود في حياة الإنسان حتى في زمن السلم، ويحمل في طياته بعض العناصر البناءة والنافعة، إلى جانب العواقب الوخيمة والقوى المدمّرة الأليمة"[11].

"كما عرّف بعض الباحثين النزاع بأنه تنازع بين مجموعات مختلفة (عرقية، قومية، سياسية ودينية) من خلال مخالفات غير منطقية لأعراف الحياة اليومية للمجتمع". غير أن ممارستها غير المنطقية لا تمنع وجود أسباب وأهداف منطقية تقف وراءها، كما هو مشاهد في مطالب العديد من الأقليات الدينيّة والعرقية والسياسية"[12].

"وهناك من عرّف النزاع بأنه انهيار أو تعطّل في النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي القائم دون أن يصحبه بالضرورة تغيير بإقامة نظام بديل يحدث تغييرات تؤدي إلى حل الأزمة جذريا وتجنب ما حدث في الصومال وقبله في لبنان. وتحدث آخرون عن مفهوم النزاع من خلال تحديد الظروف الموضوعية لبروزه. فيوجد النزاع عندما تلاحظ مجموعتان أو أكثر أن مصالحهما متناقضة والتعبير عن مواقفهما أصبح يفسر تفسيرا خاطئا ويتم التعامل معها بعدائية، فباتت تحاول تحقيق أهدافها بأية وسيلة حتى لو أدت إلى أعمال تحدث أضراراً بالوطن ككل وبمكوناته جميعها، أفراداً أو مجموعات صغيرة أو كبيرة"[13].

   ويحدث النزاع أيضا بين نظام ديكتاتوري قمعي أو نظام ملكي شمولي وبين جماهير وقوى سياسية في بلدانها تطالب بالديموقراطية وفصل السلطات (التشريعية التنفيذية والقضائية) وعدم مصادرة مسؤولياتها ودورها وصلاحياتها، وإعطاءها حقوقها ومن بينها ممارسة حرية الرأي والفكر والعقيدة، وممارسة النشاط السياسي، والمشاركة في تنمية وبناء وتطوير المجتمع وتقرير مصيره ومستقبله، وأن يمارس دوره في الإنتاج المادي للمجتمع، وهذا الوضع ينطبق على معظم البلدان العربية إن لم يكن جميعها.

     كذلك فإن النزاع يحدث في بلدان ما يسمى العالم الثالث، حيث كانت الانقلابات العسكرية سيدة الموقف فيها. فبوصول هذه الجهة العسكرية أو تلك إلى السلطة، تبدأ بقمع المناوئين لها حتى ولو كانوا من حلفاء الأمس، وزجهم في السجون، لتستتب الأوضاع الأمنية لها، ويحدث الاستقرار السياسي بما ينسجم وتوجهاتها ومصالحها وأهدافها. تتحالف الطغمة العسكرية مع البرجوازية في بلدانها، فتتشكل منهما البيروقراطية البرجوازية التي تتضارب مصالحها مع مصالح عامة الشعب، لتبدأ بممارسة القمع والقهر والإرهاب ضد كل من يخالفها. وقد حصل ذلك في سورية ومصر والعراق واليمن وليبيا والسودان والجزائر...

 وعرّف النزاع مجموعة من المتخصصين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:   

- " كينيث بولدين[14]" عرّف النزاع: "بأنه حالة وضعية تنافسية، يكون فيها طرفان أو أكثر مدركان لعدم تطابق محتمل لوضعيتهم المستقبلية التي يمكن لأحد الأطراف أن يحتل فيها مكان الآخر، بما لا يتطابق مع رغباته".

- "مايكل نيكلسون[15]"، في كتابه تحليل النزاع يقول:

إن النزاع يوجد عندما يحاول شخصان (أو طرفان) القيام بأفعال متناقضة، فيعتبر أن الشخص عند قيامه بفعل ما يناقض نظيره، يخلق حالة من التوتر بينهما، وذاك ينطبق على الدول، فإذا كانت دولتان تختلفان في أمر ما، فالتناقض بينهما يؤدي إلى أزمة سياسية، مما ينجم عنه نزاع".[16]

- توماس شيلينغ[17]: "النزاع مواجهة يسعى كل طرف من خلالها تحقيق الربح، ويتجه الأطراف في هذه المواجهة إلى البحث عن قواعد (ووسائل) تسمح لهم بضمان أفضل فرص للنجاح".

- كريس بورغ[18]: يعرفه بصراع اجتماعي موجود عند طرفين أو أكثر، يعتقدون أن لديهم أهداف غير متوافقة، ويمكن أن يكون النزاع بينها سلمي أو عنيف.

- دينا زينس[19]: عندما تكون سياسة دولتين غير متوافقتين، على الحدود والمياه والموارد...الخ، نكون أمام نزاع دولي، يكون السلوك النزاعي بينهما عنيف.

-هولستي[20]: النزاع عنده، " تنازع إرادات ناتج عن الاختلاف في دوافع الدول. بمعنى أنه حالة تنافس تكون فيه مواقف الأطراف الدولية متعارضة مع المواقف المحتملة لرغبات الآخرين". مثل: إنكار طرف دولي حقوق طرف دولي آخر حول مسائل تثير النزاع بينهم.

- إدوار عازار: النزاع هو، "الصراعات الاجتماعية التي طال أمدها بين طائفتين (طرفين) من أجل حاجات أساسية، الأمن والاقتصاد، لبلوغ المشاركة السياسية والاجتماعية"[21].

لينين[22]: التناقض (النزاع) عنده شيء عام، مطلق، موجود في عمليات تطور الأشياء، منذ البداية إلى النهاية[23] فالنزاع: هو التناقض بمسميات أخرى وهو الذي يحكم العلاقات داخل المجتمع والطبيعة.

"إن الاعتماد المتبادل بين طرفي التناقض في كل شيء، والصراع بينهما، يقرران حياة ذلك الشيء ويدفعان تطوره إلى الأمام. فليس ثمة شيء ليس به تناقض، ولولا التناقض لما وجد شيء"[24].

وعليه فالتناقض له قوانينه ويقوم على أسس ثلاثة:

1-    يشترط أحد طرفي التناقض وجود الطرف الآخر.

2-    يوجد طرفي التناقض في الزمان والمكان ذاته.

3-    ينتقل أحد طرفي التناقض، ليحل محل نقيضه في ظل ظروف معينة.

كما في الهجوم والدفاع، التقدم والإنسحاب، النصر والهزيمة في الحرب، جميعها مظاهر متناقضة لكن كليهما، متصارعان ومتحدان في وقت واحد، يؤلفان بذلك الوحدة الكلية ويدفعان إلى التطور ويحلان مشكلاتهما.

وقد يبدو متناقضا أن الأفعال والمشاعر والأفكار نفسها التي تثير النزاع، تروّج للتطور الذاتي للشخص وترفعه للإستفادة من إمكاناته الذاتية. فالنزاع دليل حيوية، إذ تنفجر الطاقات وتتوجه المجهودات من خلال التنافس في مستواه الأدنى، إلى التنازع والصراع في مستواه الأعلى وتوجيه الطاقات إيجاباً للتفوق والتجديد والإتقان والتطور. فالتنافس وهو أحد أشكال النزاع إذاً قد يكون مهمّاً ونافعاً ومفيداً متى ما وجه في تجاه الخير والتقدم والتطور والبناء الإجتماعي والسياسي والثقافي والعكس صحيح أيضاً، إذا وجه إلى الإتجاه الآخر، فالكلمة نفسها محايدة، ليست بالشر ولا بالخير ولكنها تحمل المعنيين معاً، ومن المؤكد أنه لا انفكاك منها لأنها جزء من الطبيعة البشرية"[25].

إعتمد الإنسان في  بداية عهد المشاعي[26] الرعي والزراعة، فكانت الملكية الجماعية هي المنتشرة بين المجتمعات فلا وجود لفكرة الكلكية الفردية فكان الصراع محدوداً وليس معدوماً. وبعد ذلك كان الإعتماد على الزراعة بالعصر المشاعي الثالث، فبدأ التنافس والصراع مع القبائل الأخرى على المراعي والأراضي الزراعية ومصادر المياه. فأندلعت الحروب بينهم من أجل السيطرة والتسلط وكانت القبائل المنتصرة تأخذ القبائل المهزومة عبيداً لديها، وهكذا انتلقت المجتمعات من العصر المشاعي العبودي وتكرست فيه الملكية الفردية، ليطور النزاع ويتفاقم الصراع، لينتقل بعدها الى عهد الاقطاع وبعده عصر الرأسمالية الإشتراكية وصولاً الى عهد العولمة والقرية العالمية، الوجه الآخر للهيمنة والسيطرة واستغلال الشعوب والدول الضعيفة والفقيرة من قبل الدول القوية والغنية وشركائها الاحتكارية. كان التنافس والصراع بين المجتمعات يحكم العلاقات والعصور، والتي حتمت على الانسان والمجتمعات الاعتماد على ذاتها وتطوير قدراتها الانتاجية، القتالية والتسليحية.

وقد كانت الإمبراطوريات والممالك  للتصارع فيما بينها طلباً للسيطرة ولبسط النفوذ وقد عمدت لتخفيف ذلك بحروب إبادة الشعوب في العصر القديم، الوسيط والحديث.

وقد شهد العالم صراعات وحروب دامية، بعد اكتشاف القارة الجديدة اميركا وكان هناك حروب طائفية بين البروتيستانت والكاثوليك، استمرت مئات السنين في أوروبا. وكذلك بين الدول الإستعمارية على السيطرة على الدول والشعوب، الطرق البحرية، المعابر والمضائق، وعلى الثروات والأسواق لتصريف منتجاتها بعد الثورة الصناعية في أوروبا.

وشهدت المنطقة العربية نزاعات صراعات متعددة، داخلية بين الطوائف ومذاهب وقوميات إثنية، وصراع أيدولوجي وسياسي على مصالح وحقوق، سعى كل واحد فيها الى تحقيق اهدافه بوسائل سليمة وأخرى عنيفة. كذلك الصراع العربي في مواجهة الدول الإستعمارية التي فرضت سيطرتها وبسطت نفوذها فيها، وعمدت الى ايجاد طبقة ترتبط بها لحرية مصالحها، وقد عملت بعد جلائها على تقسيم المنطقة العربية وتنصيب حكومات فيها، ورسم حدوداً لدولها وشرعنة حدودها والإعتراف بها في المحافل الدولية.

نجحت الدول الإستعمارية، ليس في التقسيم الجغرافي للدول العربية، بل تخريب اللحمة بين أبناء الشعب العربي الواحد. فقامت على إثرها الازمات الإجتماعية، السياسية، الإقتصادية والطائفية لتحصل إنقلابات عسكرية في هذه الدولة العربية او تلك، من ثم انقلابات مضادة ليلغي احدهما الآخر وهكذا دواليك، أما الصفة التي تحكمت في الأوضاع فكانت العنف، القهر، الظلم ومصادرة الحريات والحقوق...

لم يكن لبنان بعيداً عن الأجواء العربية تلك، بل كانت تردداتها وتأثيرها عليه كبيرة، إضافة الى أزماته الداخلية التي يعيشها والحروب  الطائفية التي خيضت بين الموارنة والدروز في جبل لبنان أواسط القرن التاسع عشر وصولاً الى الحرب الأهلية بين 1975-1989. والتي أكدت أن ليس من حلول جذرية لأزمة لبنان القائمة، لأن تركيبته الطائفية التي تقوم على الديموقراطية التوافقية، وهي التسمية المبطنة لهيمنة الطوائف الكبرى على الطوائف الصغرى وسيطرة الطبقة الغنية على الطبقة الفقيرة، وستبقى مفاعيل هذه الحرب وتردداتها موجودة ما دام لبنان بتركيبته الحالية، فلا توجد قوى جذرية وجادة قادرة على إحداث عملية التغيير فيه.

لا تخلو أمة من ظهور صور ومظاهر متعددة للنزاع في قضاياها المختلفة. ويختلف الناس أيضاً في سبل تعاطيهم مع النزاع عند وقوعه. فالرصيد الثقافي والتربوي بين الناس يختلف، وهذا بدوره يترك أثراً حول  كيفية إدارة النزاع والبحث عن حلول له. فالنزاع إذاً مظهر لتأزم العلاقات، وإنسداد سبل الحل القائمة أو المتاحة. وهنالك آثار تترتب على النزاعات منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي[27].

وللإنسان في إدارته للنزاع، دور في تحديد ما يناسب هذه الآثار، وله أيضاً مراحله التي يمر فيها في بداية التأزم، إلى حدوث وخروج مظاهر النزاع ونتائجه على السطح.

إن معرفة نوع النزاع وطبيعته وأطرافه، هو ما يحدد الآلية المناسبة للحل. فنزاع الأخوة والأشقاء وأبناء الوطن والدين والوظيفة أو المؤسسة المشتركة، ليس كنزاع مع عدو قومي متربّص يحتل الوطن  ويشرد الشعب فيه ويقتل البشر ويقتلع الشجر ويدمر الحجر.

 الناس يختلفون في المزاج والهوى والغرائز والتطلعات والمقدرات والمزايا. فكل شخص نسيج فريد ومتميز عن غيره. ولولا التنوع (التناقض) لكان من الصعب إعمار المجتمعات وإزدهار الوجود وقيام الحياة. ولا يتحقق منها أي شيء، لو أن البشر خلقوا سواسية ومتطابقين في كل شيء (وهذا من المستحيلات). ورغم هذا التنوع، يحتاج كل شخص أن يعيش في إطار جماعة من البشر (لأنه كائن اجتماعي) ولتأمين احتياجاته المادية والمعنوية.

 "فالنزاع جزء لا يتجزأ من وجودنا، فابتداءً من العلاقات الشخصية البينية المصغرة، ومروراً بالمجموعات والمنظمات، وانتهاءً بالتجمعات والمجتمعات والأمم، فالعلاقات الإنسانية (كعلاقات اجتماعية واقتصادية وسلطوية) تتسم بالنمو والتغير. فالنزاعات تنشأ من حالة عدم التوازن بين هذه العلاقات، كالمكانة الاجتماعية غير المتكافئة، (الصراع الطبقي) والوصول إلى الموارد والثروات بشكل غير متكافئ، والتمتع بالسلطة للبعض على حساب الآخرين. فتقود حالة عدم التوازن إلى مشاكل عديدة، كالتمييز، البطالة، الفقر، الاضطهاد والجريمة. وعليه فإن كل مستوى يتصل بالمستوى الآخر، يشكل زخماً تعبوياً من القوى التي يمكن أن تحدث تغييراً بناءً أو عنفاً مدمراً"[28].

"فالنزاع مرافق لنا شئنا أم أبينا، ولن يكون أمامنا سوى خطوة واحدة لنلمس أننا بحاجة إليه، ففي عالم التجارة والأعمال الذي يركز على الآثار النفعية للنزاع، كجعل الناس أكثر دراية بالمشاكل، وأكثر تشجيعا لإحداث تغيير ضروري، وأكثر قدرة للوصول إلى حلول عملية، كرفع المعنويات وتعزيز نمو الشخصية وزيادة الوعي الذاتي وأكثر تحفيزا للنضوج النفسي ولإدخال السعادة بالنفس". فلو تخيلنا حالة دون نزاع، نرى أفرادا يفتقرون إلى الدافعية، ومؤسسات أو جماعات غير حيوية، ومجتمعات آيلة للانهيار تحت ثقلها نظرا لعدم قدرتها على تغيير الظروف والتعاطي مع علاقات القوة. (فالإمبراطورية الرومانية انهارت نظرا لعجزها عن التكيف والتغيير)[29].

 

2-  التطور التاريخي للنزاع

عند استعراض الأحداث وتطوراتها في لبنان، نجد أن الحرب الأهلية اندلعت في 13 نيسان 1975 نتيجة الإحتقان الإيديولوجي والخلل في التوازنات السياسية والتناقضات بين اللبنانيين بسبب الفوارق الطبقية، الإجتماعية والطائفية. كما تغذت هذه التناقضات من وضع لبنان الجغرافي السياسي بين سوريا و"إسرائيل" والصراعات العربية – العربية، والعربية – الدولية على الساحة اللبنانية، وأطماع "إسرائيل" فيها وأهداف أميركا في بسط نفوذها فضلاً عن نمو المقاومة الفلسطينية بعد عام 1967 وترسيخ دورها السياسي والعسكري في لبنان، وتدخلها في الأزمة اللبنانية لصالح القوى اليسارية الساعية إلى إقامة نظام ديموقراطي يساري متحالف معها"[30].

"فقبل الحرب الأهلية وخلالها ارتفعت إيديولوجيات بررت الجنوح نحو حالة اللاتعايش، وتوسل العنف لتحقيق الأهداف، وكذلك كانت النضالات المطلبية للعمال والفلاحين والصيادين ومعظم فئات المجتمع تتطلع إلى تحقيق مطالبها، حيث حالت تركيبة النظام الطبقية الطائفية دون تحقيقه.

وفي ظل رواج مقولة "التعددية الثقافية" و"التعددية الحضارية" بتأثير من الدين والتجربة التاريخية والثقافة المجتمعية الطائفية، والمؤسسات الثقافية التحليلية، وكذلك البيت. وبفعل ضعف حضور الدولة على مستوى التربية المواطنية، كان من المستبعد أن تقوم ثقافة وطنية جامعة، وتحصل نقلة نوعية في الفكر والمؤسسات والعلاقات الإجتماعية، والنظام السياسي، تشكل حماية لتعايش اللبنانيين.

في أواخر الستينيات من القرن الماضي، كان الانفجار السكاني الذي شهدته الطائفة الشيعية على خلفية الفقر الاقتصادي والنزوح الريفي إلى حزام البؤس الشعبي في بيروت، قد شكلا جمهوراً مناسباً بامتياز لقوى تعبر عن تجذر اجتماعي وسياسي تدريجي للحركة القومية العربية، وصولا إلى تحول بعض فصائلها إلى اتجاه  اليسار والماركسية[31]. وقد تسبب النزاع الإيديولوجي بين الطوائف والأحزاب في لبنان إلى احتدام الأوضاع ما أدى إلى تطور النزاع إلى عسكري عنيف، لم يكن من إمكانية في ذلك الوقت لوقفه أو ردعه. فقد أصدرت "الأحزاب الوطنية والتقدمية" اللبنانية بياناً في 7/7/1977 تحت عنوان "من أجل تسوية متوازنة" دعت فيه إلى:

1-    إعادة المهجرين إلى مناطقهم وأماكن سكنهم.

2-    إعادة توحيد الجامعة اللبنانية.

3-    إعادة توحيد القوى الأمنية.

4-    تحويل لبنان من مجموعة طوائف إلى جسم وطني واحد متماسك.

5-    تثبيت عروبة لبنان وانتمائه ودوره في الصراع العربي – الإسرائيلي.

6-    دعوة رئيس الجمهورية لتنظيم حوار وطني واسع بين القوى السياسية من أجل الوصول إلى برنامج حد أدنى مشترك لتحقيق الإصلاح، وإقامة توازن سياسي على أسس أكثر ديموقراطية[32].

النزاع في العصر الحديث

     أدى سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية إلى إنهيار جهازها السياسي، وإستحالة قيام الوحدة في أوروبا مرة أخرى، حيث ساد النظام الإقطاعي فيها. ولما قامت حرب المائة عام بين فرنسا وإنجلترا (1337-1453) قويت أواصرالروابط القومية بين رعايا هاتين الدولتين وإزداد شعور كل شعب بكيانه القومي. ثم تلا ذلك عصر النهضة الذي كان من نتائجه سعي الدول إلى تدعيم سيادتها عن طريق خلق سلطة مركزية قوية بأي ثمن، وجاءت حركة الإصلاح الديني في مستهل القرن السادس عشر لتعزز الملكية المطلقة، ولتقضي على ما تبقى من سلطة الكنيسة الكاثوليكية في روما، مما أدى إلى زيادة التجزئة وبروز الدول القومية نتيجة للحروب الدينية التي قسمت أوروبا إلى دول مذهبية (كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية)، ما أدى إلى مزيد من الحروب، وتصادم الفرقاء في حرب ضروس عمت  أوروبا ككل، إستمرت ثلاثين عاماً، وعرفت بحرب "الثلاثين سنة" وانتهت بمعاهدة "وستفاليا" عام 1648، والتي شكلت إتجاهاً جديداً في العلاقات الدولية[33]، ودعماً لنظرية الأمن الجماعي الأوروبي، والتي إستقت مبادئها من وحي الأديان وكتابات المفكرين، والفلاسفة الذين تأثروا بفلسفة اليونان المثالية خصوصاً أفلاطون في كتاب" الجمهورية"، وتوماس مور في كتابه "اليوتوبيا" وغيرهما.

ظهور التنظيم الدولي

 كانت العلاقات في المجتمعات القديمة تقوم على أساس القوة لإستثمار الموارد، ولذلك كانت الحرب هي الوسيلة الأساسية إن لم تكن الوحيدة لحل المشاكل التي تواجهها المجتمعات وإن الفصل للقوة والكلمة للمنتصر. من هنا كانت فلسفة "الحق للقوة" (Might make right) هي الفكرة السائدة في المجتمع القديم. وبذلك لا يمكن تصور وجود تنظيم دولي أو منظمات دولية تقوم بدورها بالرغم من عدم نفي وجود علاقات بين تلك المجتمعات فالحرب بذاتها هي نوع من أنواع العلاقات الدولية إلا أنها الصورة السلبية لها.

وأمام التطورات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية وبضغط الحاجة للأمن والسلام والإستقرار والتقدم ولأسباب أخرى بدأت الدعوات تتصاعد منذ القرن الرابع عشر لإيجاد منظمات دولية تتسم بصفة الثبات والإستقرار لتنظيم العلاقات بين الدول، وطرحت المشاريع لذلك منها المشروع الذي طرحه المشرع الفرنسي (بيير دي بوا) سنة 1305م. ومشروع الوزير الفرنسي (سلي) 1603م. لإنشاء جمهورية مسيحية كبرى تضم جميع شعوب أوروبا، ثم مشروع الأب (سان بيير) 1713م. المقدم إلى مؤتمر (أوترخت) لإنشاء عصبة أمم أوروبية[34].

 

معاهدة وستفاليا 1648

 لم يبدأ إهتمام الدول بتنظيم علاقاتها على أساس من القواعد القانونية الثابتة إلا  منذ ثلاثة قرون، أي في أواسط القرن السابع عشر على أثر الحروب والمنازعات الأوروبية التي انتهت بإبرام معاهدة وستفاليا 1648م. وتعتبر هذه المعاهدة فاتحة عهد جديد للعلاقات الدولية، حيث وضعت هذه المعاهدة القواعد والأسس لقيام الأمن الجماعي واتخذت العلاقات الدولية بعدها إتجاه التعاون والمشاركة بدلاً من السيطرة والإخضاع، واعتمدت ثلاثة مبادئ وهي: مبدأ الولاء القومي على أن يكون الولاء للجنسية (الوطن) وليس للكنيسة . أي فصل الدين عن الدولة. ومبدأ السيادة. ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وأهم ما أوجدته المعاهدة ما يلي:

·        إجتماع الدول لأول مرة للتشاور وحلّ مشاكلها على أساس المصلحة المشتركة.

·        إقرار المساواة بين الدول المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية، وإلغاء سلطة البابا الدنيوية.

·        إرساء العلاقات بين الدول على أساس ثابت بإقامة سفارات دائمة لديها.

·        إعتماد فكرة التوازن الدولي كأساس للحفاظ على السلم وردع المعتدي.

·        التأسيس لفكرة تدوين القواعد القانونية وإلزاميتها[35].

وهكذا كانت هذه المعاهدة قمة التطور السياسي والقانوني في ذلك الوقت حيث أنها لم تتضمن فقط مبدأ الحرية الدينية ومساواة البروتستانت بالكاثوليك في الإجتماعات الدولية، بل تضمنت مبدأ إنشاء سفارات دائمة، وهذا يعبر عن حقيقة أساسية هي ارتباط المصالح والتعاون الدولي من أجل هذه المصالح ورعايتها. غير أن مبدأ إنشاء سفارات دائمة لم يكن عاماً إذ كان الهدف من تقريره هو تطبيقه بين الدول الأوروبية المسيحية وحدها. ومن هنا نلاحظ الصفة الجزئية أي غير الشاملة لهذه الدبلوماسية. والواقع إن تفسير ذلك يرجع إلى الفكرة التي سادت العالم المسيحي في ذلك الوقت والتي كانت ترى أن الجماعة الدولية قاصرة على الدول المسيحية وحدها.

مؤتمرات وأنظمة دولية

 أدى تعاظم قوة بعض دول أوروبا كفرنسا إلى الإخلال بمعاهدة  وستفاليا فتكاتفت الدول الأوروبية، وتجمعت في حرب ضدها في عهد لويس الرابع عشر، إنتهت بعقد معاهدة "أوترخت" عام 1713، والتي أكدت على مبادىء معاهدة "وستفاليا" بعد إعادة تنظيم أوروبا. وفي عام 1776م تم إعلان إستقلال الثلاثة عشر مستعمرة إنجليزية في أمريكا الشمالية، وترتب على هذا الإعلان ظهور فكرة رضا الشعوب عن حكامها التي تضمنها الدستور الأمريكي، ثم جاء إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية الذي تضمن مبدأ الديمقراطية في الحكم الداخلي ومبدأ حق الشعوب في إختيار حكوماتها. وفي نفس الفترة صدر تصريح عن الجمعية الوطنية الفرنسية في 19 نوفمبر 1792 ورد فيه مساعدة فرنسا لكل الشعوب التي تريد التحرر. وكان من شأن ذلك بدء إنتشار الحروب في أوروبا في ذلك الوقت، بسبب الحروب النابليونية التي عملت على الإخلال بميزان القوى في القارة. ولذلك تكتلت الدول الأوروبية ضد فرنسا وتمكنت في النهاية من هزيمة نابليون بونابرت 1814م[36].

مؤتمر فيينا 1815

 كان همّ أعضاء المؤتمر إعادة التوازن الدولي في أوروبا على أساس إرجاع الملوك، الذين قضى بونابرت على سلطانهم، إلى عروشهم، حيث عكس مؤتمر فيينا إرادة الدول المنتصرة في الحرب ضد نابليون (وهي إنكلترا والنمسا وبروسيا وروسيا) من دون الإلتفات إلى رغبات الشعوب ورأيها، والتي أثرت فيها مبادىء الثورة الفرنسية وأفكارها، فيما نصبت هذه الدول نفسها قيمة على السياسة الأوروبية وأخذت حق التدخل في جميع المنازعات الأوروبية والدفاع عن نظام الملكيّة في كل مكان تراه مهدداً. وقد إمتد نشاط هذه الدول الأربعة خارج أوروبا حيث قامت بتفتيت وتحطيم الدولة التركية خلال الفترة 1825 – 1918، حيث تم دعوة تركيا لمؤتمر باريس 1856م. وهو أول مؤتمر دولي يسمح لتركيا بحضوره، حيث إتفقت هذه الدول على مساندة اليونانيين والصرب ورومانيا وغيرها من الدول ضد تركيا، وتعددت المؤتمرات في باريس وبرلين وكان آخرها مؤتمر لندن 1912 – 1913 بعد الحرب البلقانية الثانية[37].

المؤتمر الأوروبي والنظام الدولي

 شكل مؤتمر فيينا أساساً لتشكيل الجماعة الدولية الحديثة، فبدأ يتسع مع إتساع الحركة الدولية والثورة الصناعية وحركات الإستعمار، وإستقلال الدول، وظهور القوميات، وبدأ يشمل دولاً غير مسيحية، نظراً لإتساع دائرة المشاكل وضرورة حلها، فكان يعقد مؤتمر في كل مناسبة ترى الدول الكبرى، أو إحداها ضرورة لذلك، أو مصلحة لها في عقده، وهكذا سيطرت هذه الدول على السياسة الدولية وفرضت وجهة نظرها في النصف الشرقي من الكرة الأرضية، وبذلك سمي هذا النظام الدولي الذي كان يشرف على العالم بنظام "المؤتمر الأوروبي"، والذي تميّز بسياسة عقد المؤتمرات لحلّ المشاكل التي واجهت العالم خلال القرن التاسع عشر، وإستمر حتى الحرب العالمية الأولى، وقد إستطاع أن يؤسس لكثير من المعاهدات والقوانين التي ما تزال مفاعيلها سارية حتى اليوم، كاتفاقيات جنيف 1864 الخاصة بمعاملة جرحى الحرب وإتفاقيات لاهاي 1899 و1907 الخاصة بقواعد الحرب والحياد، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وكذلك محكمة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي[38].

مؤتمر لاهاي وفض المنازعات بالطرق السلمية

 لا شك أن مؤتمري لاهاي يمثلان أهمية خاصة بالنسبة للتنظيم الدولي واللذان عقدا 1899 – 1907 وأسفرا عن إتفاقيات دولية تحمل إسم هذا المؤتمر كان لها أعظم وأخطر النتائج والآثار في تطور القانون الدولي حيث أقرت لأول مرة في العلاقات الدولية نظاماً لحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية وتخفيض التسلح، وحقوق وواجبات الدول المحايدة أثناء الحرب، وحقوق أسرى الحروب. وأنشأت لأول مرة كذلك هيئة قضائية دولية هي محكمة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي. كما إنضمت ودونت قواعد الحرب والسلم الدولي. وبالإضافة إلى ذلك عرفت العلاقات الدولية تنظيمات من نوع آخر تلك هي التنظيمات الإدارية والإقتصادية الدولية مثل إتحادات البريد والتلغراف والسكك الحديدية[39].

عصبة الأمم

منظمة دولية أنشئت عام 1919 في مؤتمر الصلح الذي عقدته الدول المنتصرة في الحرب العالية الأولى في باريس. كان نظام العصبة جزءاً من معاهدة فرساي . اتسم نشاط العصبة بطابع العداء للدولة السوفييتية.  وطبقت العصبة سياسة الاضطهاد الامبريالي ضد البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، وأظهرت عجزا كاملا في دعم السلام وأمن الشعوب[40] وانتهى دورها لدى تأسيس الأمم المتحدة عام 1945. نص ميثاقها على إلتزام الدول الأعضاء بإحترام الإستقلال والسلامة الإقليمية وحمايته من العدوان، وبالإمتناع عن استخدام القوة لتسوية المنازعات بينها. تضمن التهديد بتطبيق العقوبات ضد كل دولة معتدية تنتهك الميثاق.

رفضت أميركا الإنضمام إلى عضوية العصبة، بينما إتفقت الدول الأعضاء (فرنسا وبريطانيا) على إقصاء الإتحاد السوفياتي. إستنبطت العصبة نظام الإنتدابات تحت شعار الوصاية، فقامت بتوزيع الأقطار العربية على دولتين منتدبتين هما فرنسا وبريطانيا[41].

منظمة الأمم المتحدة

تداعى زعماء الدول المنتصرة في  إلى مؤتمر عقد في سان فرنسيسكو في الولايات المتحدة ما بين 25 نيسان ـ 26 حزيران عام 1945 ووضعوا ميثاقاً جديداً للعلاقات بين الدول وتحريم اللجوء إلى الحرب إلا دفاعاً عن النفس، وتسوية النزاعات بالطرق السلمية، وفرض الجزاء والعقوبات على المخالفين، وأوكلت هذه المهمة إلى هيئة دولية دعيت "منظمة الأمم المتحدة" تستند على الحرب العالمية الثانية ميثاق مكتوب يتضمن كافة الأمور الإجرائية والإدارية الضرورية للقيام بدورها على أكمل وجه.

وهكذا تحققت على أرض الواقع لأول مرة تلك الفكرة المثالية في تأمين الأمن الجماعي من خلال هيئة دولية قادرة على فرضه عبر مجموعة من القواعد الملزمة، والتي وافقت الدول المؤسسة على إحترامها والإلتزام بها، وتشجيع كافة الدول الأخرى على الإنضمام إلى هذه المنظمة الدولية الجديدة، حيث جاهدت المنظمة الدولية، كي تبقى وفية لميثاقها، ملتزمة بالقوانين التي سنت لحماية الأمن الدولي، ونشر العدالة بين البشر، من خلال الأجهزة والفروع التابعة لها، ولكن الواقع الدولي، وصراع القوى الكبرى، ولعبة التوازن، والمصالح الخاصة بهذه القوى، أثر مباشرة على دور المنظمة وفعاليتها، ما دفع كثير من الدول إلى المطالبة بإصلاح المنظمة الدولية من جديد لتكون معبرة عن مصالح وتطلعات أعضائها والإنسانية جمعاء في صيانة الأمن والسلم الدوليين وليس من أجل تحقيق مصالح الدول الكبرى فقط والذي يمكن أن يؤدي إلى كارثة جديدة تحل بالعالم إذا استمر الوضع كما هو عليه الآن[42].

إكتسبت قضايا المحافظة على السلام والأمن والتسوية السلمية للمنازعات أهمية خاصة، إذ أصبحت من بين المقاصد الأولى لأية منظمة دولية، كما توفرت القناعة لدى المهتمين بأمور التنظيم الدولي بأن وجود أي نظام قوي وفعال يختص بالتسوية السلمية للمنازعات يعتبر أحد المقومات الموضوعية المهمة التي تستند إليها المنظمات الدولية عموماً في مجال الإضطلاع بالمهام المنوطة بها. ولهذا فقد بدأ منذ أكثرمن خمسين عاماً عقلا جماعياً دولياً لإقرار قواعد (القانون الدولي العام)، التي تحث الدول على نبذ الحرب، والإلتجاء إلى الطرق السلمية لفض المنازعات، والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، مع إقرار حق الدول في الدفاع الشرعي لرد العدوان، وإستعمال العنف كوسيلة لدفع الخطر إذا لم تنجح الوسائل السلمية لحل النزاعات بين الدول.

بينت الهيئة الدولية أن العالم لا يقف مع الضعيف والمظلوم، بل مع القوي حتى ولو كان ظالماً. وهذا ما أثبتته المنظمات والهيئات الدولية في علاقاتها مع الدول والشعوب الضعيفة والفقيرة. وذلك يتبين بشكل واضح في القضايا المتعلقة بالدول العربية وبالصراع العربي – الإسرائيلي.

 

3-  أسباب النزاع

تنشأ النزاعات في كثير من الأحيان من الأفكار التي يكوّنها كل جانب عن الجانب الآخر أو ربما تحدث نتيجة للاختلاف الشديد في الطرق التي يحاول بها الأفراد حل مشاكلهم. وعادة ما يبدأ النزاع في شكل صراع على المصالح والمكاسب وعلى الموارد أيضا، ولكنه يتطور ليأخذ شكل الصراع السياسي، ثم صراع ثقافي، ثم نزاع على الهوية. وتشمل النزاعات المسلحة أطرافاً سياسية وعسكرية مختلفة التكوين والأهداف...

وقد تجد المساندة والدعم من انحياز بعض المواطنين المحليين إلى أحد طرفي النزاع، أو أن تقوم دولة ما بدعم أحد طرفي النزاع ممن تتلاقى مصالحها وأهدافها معه، فتزداد الأمور تعقيداً والأزمة تفاقماً. كما تؤثر النزاعات كثيراً على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة وعلى مستقبل الشعوب ورفاهيتها.

إن مسببات النزاع الأساسية هي العوامل السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والإيديولوجية، كما إن الاستخدام السيء للموارد والتدهور البيئي وبخاصة الخلافات على الموارد المائية يمكن أن تكون من أسباب النزاعات كما حدث في دارفور. كما تلعب العولمة (التي تجعل الأحداث التي تحدث في أجزاء مختلفة من العالم مترابطة مع بعضها البعض) دوراً في تأجيج الحروب، حيث إنها تعمق الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة، وبين الفقير والغني داخل الدولة نفسها، حيث يؤدي التفاوت في تقسيم الثروة إلى الشعور بالاستياء ويعتبر من العوامل التي قد تقود إلى الحروب، كذلك عدم المساواة والعدل بين أفراد المجتمع الواحد.

تتحكم العولمة في ثروات وموارد الدول والشعوب الفقيرة، في إنتاجها وتسويقها واستهلاكها، وفي فرض آلية السوق على القطاعات الإنتاجية فيها، وفي الصادرات والواردات وفي المساعدات والخدمات وفي الضرائب والرسوم وفي رفع الدعم لبعض السلع الأساسية، فتزداد المديونية العامة، ما يؤدي إلى خضوع وتبعية وارتهان إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فتتفاقم البطالة وتتهمش طبقات وشرائح اجتماعية واسعة ويزداد التفاوت الاجتماعي بتراجع الدولة عن تأمين بعض الخدمات الصحية والتربوية والغذائية...الخ. وهذا "يؤدي إلى صراعات داخلية وحروب طائفية ومذهبية وفئوية وإثنية. فمنطق العولمة أدى إلى مزيد من تفاقم النزاعات والصراعات بين الدول أو داخل الدولة الواحدة"[43].

ومن أسباب النزاع أيضاً:

1-اختلاف طريقة فهم الأمور والتعاطي معها بين البشر، يعد من أحد المسببات في حدوث النزاع.

2-اختلاف الثقافة فكل إنسان له رصيد ثقافي يختلف عن الآخر.

3-الاختلاف الأيديولوجي بين قوى دينية وعلمانية وبين الرأسمالية والاشتراكية.

4-الاختلاف في تقدير المصلحة. فكل يتناول المصلحة من الزاوية التي تناسبه.

5-اختلاف الذوق فكل إنسان لديه ذوقه الخاص في الأمور والأشياء.

6-الشعور بالغبن والخديعة والظلم.

7-اتصاف البعض بصفات عدوانية كالمكر، الخداع، الطمع، العدوان والطغيان[44].

8ـ احتكار السلطة والسيطرة على موارد وثروات الشعوب ومصادرة قرارهم.

9- دور الصحافة في التعبئة والتحريض والترويج للإنسان ومن ثم ناتج النزاع بين الاتجاهات جميعها ولصالح الاطرف كلها.

 

4-    مراحل النزاع

يمر النزاع بمراحل ثلاث:

أولاً: مرحلة التكوين: تبدأ من إختلاف الفهم بين الأشخاص المنتمين إلى ثقافات وأيديولوجيات متباينة أو عمل معين أو منشأة أو عائلة أو أسرة واحدة، أو طائفة أو دولة أو دول، فاختلاف الفهم والظن وتضارب المصالح والتناقض في الهيمنة والنفوذ، وتباين التصور والتفكير، يهيئ ويمهد ذلك كله للنزاع وخصوصاً النزاع العنيف.

ثانياً: مرحلة التصعيد والتأزم: تعقب مباشرة مرحلة التكوين وفيها تظهر مواضيع النزاع أو مسائله للطرف المقابل، فتكون الأمور كالتالي: توتر، نزاع، صراع، عنف بأشكاله المختلفة.

ثالثاً: مرحلة العداء الشديد والتناحر: يتهم طرف أطرافا أخرى في تحميلها مسؤولية الأسباب التي دفعت إلى النزاع، فتكون النتيجة، الرفض والهجران والقطيعة والعداوة، وقد تصل إلى صدامات عنيفة فيما بينها[45].

5-    خصائص النزاع

 

1-    ينشأ النزاع من أهمية الموقع ووفرة الموارد، ما يؤدي الى صراع دولي بهدف السيطرة عليها.

2-    يتورط في النزاع طرفين على الأقل.

3-    تتشابك الأطراف في تفاعلات تتألف من أعمال مقاومة وأعمال مضادة.

4-    تصرف وسلوك الأطراف يهدف إلى الإضرار - وإبادة الطرف الآخر، ويمكن أن يؤدي إلى ضبط النزاع وكذلك الأطراف المتعارضة.

5-    النزاع على السلطة واحتكارها وممارساتها ومحاولة انتزاعها بالوسائل الديمقراطية أو العنفية جميعها، وخصوصاً الانقلابات العسكرية في سورية والعراق في خمسينيات وسيتينيات القرن العشرين.

6-    يمكن أن ينجم عن النزاع نتائج اجتماعية مهمة[46]كتغيير في تركيبة النظام وبنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو يدفعه إلى التطرف دفاعا عن نفسه ومصالحه وعلاقاته. كما حصل في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى بإسقاط السلطة العثمانية وإقامة نظام جمهوري بزعامة مصطفى كمال اتاتورك.

6-  تصنيفات النزاعات الدولية

تتفرد ظاهرة النزاع الدولي عن غيرها من ظواهر العلاقات الدولية بأنها ظاهرة ديناميكية معقدة. ويرجع ذلك إلى تعدد أبعادها وتداخل مسبباتها ومصادرها، وتشابك تفاعلاتها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة وتفاوت المستويات التي تحدث عندها وذلك من حيث المدى أو الكثافة والعنف[47].

1.  نزاع داخلي كبير، اقتصارهذا النوع من النزاعات على مسألتي تقسيم السلطة وتوزيع الثروة، وتتعمق هذه النزاعات في حالة تحرك العوامل الإثنية والقبلية مما يزيد من التقسيم والانشقاق الداخلي وهو ما ينعكس على التماسك السياسي والاجتماعي والأمني.

2.  نزاع داخلي صغير، وهي نزاعات تقتصرعلى المسائل الخلافية في الاستبداد السياسي والمطالبة بالمزيد من الانفتاح السياسي أو بالصعوبة في العيش الكريم مما يدفع بالكثير من المناطق الداخلية للاضطرابات: الاحتجاجات، الإضرابات، ويمكن احتواء مثل هذه المسائل النزاعية بالوسائل السلمية بتحريك البرامج التنموية أو الوعود بفتح المجال للمشاركة السياسية

يصنف كنيث وولتز Kenneth waltz النزاعات الدولية إلى أربع أنواع ، الثلاثة الأولى تتعلق بأطراف النزاع والنوع الثالث خصصه لدرجة حدة النزاع داخل الدولة:

1.   نزاع بين القوى الكبرى، ويكون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويصعب إيجاد آليات لتسوية مثل هذه النزاعات في حالة ما إذا كانت مواضيع النزاع ذات مسائل حيوية بالنسبة لكل طرف.

2.  نزاع بين أطراف الحلف الواحد، وهنا يمكن احتواء الأزمة أو النزاع من قبل القطب المركزي داخل الحلف وتكون السهولة في التعامل مع هذا النوع من النزاعات بسبب السرعة في تنفيذ وتحريك آليات التسوية أو القوة في فرض العقوبات على الطرف المصر على تعميق النزاع، وبالتالي يصبح خيار التسوية والسلام هو الخيار العقلاني لكل طرف[48].

3.  نزاع بين قطب رئيسي وإحدى الدول في منطقة نفوذه المباشر: ويتسم هذا النوع من النزاعات بسيطرة القطب على مسار النزاع وتكون قراراته سريعة في حسم النزاع لصالحه وبالأخص في حالة النزاع على منطقة نفوذ حيوية بالنسبة للقطب، ويتحرك القطب بسرعة في حسم النزاع حتى بالوسائل العسكرية لخلق قناعة لدى الدول المجاورة للقطب بأن مصيرها سيكون أكبر في حالة تكرار النزاع مع القطب أو تشكيل تحالف مع قوى منافسة للقطب

4.   النزاعات الداخلية: وهي من النزاعات الاجتماعية الطويلة الأمد تحركها الانقسامات الداخلية ذات الطبيعة الإثنية، القبلية، الدينية،القومية، وتتسم بدرجة قوية من العنف وتتمحور حول السيادة على السلطة أو المطالبة بالانفصال عن الدولة الأم. وغالبا ما يكون تسوية هذه النزاعات تتسم بالصعوبة بسبب التناقضات الجذرية في التصورات والرؤى حول مستقبل العيش المشترك[49].

 

7-  مصادر النزاع

أ‌-       مصادر فردية نفسية: تعتمد غريزة حب السيطرة والتسلط.

ب‌-  مصادر إيديولوجية: التناقضات والتباينات الإيديولوجية بين إيديولوجية دينية وأخرى علمانية وبين إيديولوجية رأسمالية وأخرى اشتراكيه بحيث تتسبب في نزاعات وصراعات دولية قديمة وحديثة.

ت‌-  مصادر جيوبوليتكية: وتعتمد على الوحدة العضوية للأرض والسكان والنظام السياسي فيها، وتنظر إلى الحدود الإقليمية بأنها مناطق مائعة، لا ثبات فيها وإنها قابلة للزحزحة في صالح الدولة الأكثر قوة.

ث‌-  مصادر ديموغرافية: تقول بأن عنف الحروب يتناسب طردياً مع حجم الفائض البشري الذي يمثل القوة الرئيسية الضاغطة في اتجاه وقوع الحرب.[50]

ج‌-    مصادر تتعلق بالنظام السياسي الداخلي وأخرى بالنظام الدولي. فعلى المستوى السياسي الداخلي: كلما قلّ الاستقرار وبدأت الأزمات الداخلية، (وخصوصا الاقتصادية) كلما ازداد تورط الدولة في نزاعات دولية (تصدير الأزمة) وهذا ينطبق على الوضع الداخلي والدولي أيضا. لأن تورط الدولة في صراع دولي، ممكن أن يحقق تماسك داخلي، وممكن أن يفاقم الأزمة. فعلى سبيل المثال: سئل جيمس بيكر وزير خارجية أمريكا عشية الحرب على العراق عام 1991 عن كيفية خوضها والاقتصاد الأميركي يعاني كثيراً من الصعوبات؟ أجاب: "إنها هي (الحرب) المخرج للأزمة وبنتيجتها يتحدد شكل العلاج"[51]. أي أن تصدير الأزمة أسهم في حل الأزمة الإقتصادية التي واجهت أميركا كلها بعد العدوان الأميركي مع 2003 لم يسهم العدوان في حل الأزمة بل زاد في تفاقهما على المستوى الدولي: الصراع بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي يرتبط بتوسيع رقعة النفوذ لدى كل منهما. وبعد سقوط نظام الثنائية القطبية أخذت الشركات العملاقة والمتعددة الجنسيات في التدخل في الشؤون الداخلية للدول من أجل مصالح سياسية واقتصادية[52].

ح‌-    مصادر تتعلق بالموارد النادرة: الطاقة – الغذاء – المعادن –المياه.

خ‌-    مصادر تتعلق بالشؤون الداخلية للدول. أي تدخل دولة في الشؤون الداخلية والخارجية لدولة أخرى دون أن يكون لهذا التدخل مسوغ أو سند قانوني.

د‌-      مصادر تتعلق بالفقر والتخلف والتبعية وعدم الاستقرار. وبدون استئصال الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لنشوئها، تتفاقم الأزمة وتزداد خطورتها، وتعود الأسباب إلى ضعف المؤشرات لإيجاد حلول لها أو غيابها، وكذلك يعود إلى التبعية وعدم الاستقرار الذي يؤدي إلى النزاعات.

ذ‌-      مصادر تتعلق بالنزاعات الإثنية: ومعظمها طويلة الأمد نتيجة للتدخلات فيها، اللغة، الحضارة، الهوية، الدين، الانتماء القبلي، والعرق واللون. ومعظم هذه الصراعات ليس بين دولة وأخرى، بل بين مجموعة إثنية وأخرى داخل الدولة ذاتها، أو بينها وبين النظام[53].

وقد يجري النزاع نتيجة لمجموعة من الحاجات لتحقيق منافع خاصة، ونتيجة لوجود مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية تدفع مجموعة من السكان للتمرد على السلطة ومحاولة الحصول على حقوقهم السياسية بالقوة، فعندما يشعر أحد الأطراف أن هناك مصالح يمكن أن يجنيها من جراء هذا النزاع فإنه يندفع نحوه بقوة، بغض النظر عن الأضرار التي يمكن أن يلحقها بالطرف الآخر وخرقه للأعراف والقوانين التي تلزم هذه الأطراف.

وتتعدد مصادرالنزاعات والحروب الحالية فمنها مصادر داخلية وأخرى خارجية:

      I.            المصادر الداخلية للنزاع

تختلف درجات النزاعات الداخلية من دولة إلى أخرى. وتتردد ردود الفعل الرسمية والشعبية تجاه ذلك بين محاولات وقف الحروب الأهلية، وحماية وتقوية السلام الوطني لئلا يستبدل به مواجهات داخلية. ويمثل احتواء النزاع العنيف، وتخفيف المعاناة، ونزع فتيل الصدام، التحدي الكبير والرئيسي للدول التي تعاني من نزاعات داخلية. فالنزاع الداخلي تتعدد أسبابه ومنها:

1-    النزاع حول اقتسام الموارد وكيفية توزيعها، وشعور بعض المجموعات بأنها لا تنال نصيبها من إمكانيات دولها وتسعى للحصول عليه بالقوة[54].

2-    النزاع حول السلطة وأسلوب المشاركة في الحكم وتسلط بعض الأنظمة الحاكمة على مقدرات الشعوب، وسيطرة أقلية عرقية على مصالح الأغلبية، كما حدث في بورندي ورواندا، كل ذلك يؤدي إلى استياء عام لدى الشعوب، وظهور حركات مسلحة معارضة لأنظمة الحكم، وتصادم بين الشعب والحكومة تنتهي بحروب أهلية، تؤدي إلى دمار وهلاك الدول والشعوب[55].

3-    نزاعات الهوية والتباين الثقافي والاجتماعي والسياسي وظهور المشكلات الطائفية والعرقية كبواعث أساسية للصراعات، حيث تعاني بعض الدول من تركيبة سكانية معقدة، تختلط فيها الأعراق والطوائف وبعضها أو بين الطوائف والحكومة، ومن ثم تنقلب إلى حروب أهلية، ومثال ذلك النزاعات الطائفية في لبنان والنزاعات القومية مع الأكراد في العراق وسوريا وتركيا وإيران[56].

4-    النزاعات العرقية والدينية والإيديولوجية (رواندا، الجزائر، نيجيريا).

5-    النزاعات مع الطبيعة. وتحدث نتيجة لبعض العوامل الطبيعية كنقص الأمطار وقلة مصادر المياه مما يؤدي إلى ظاهرة الجفاف والتصحر وبالتالي حدوث نزاعات حول مصادر المياه ومناطق الرعي كما حدث في دارفور، فيتحول الخلاف الذي يحدث بين هذه المجموعات من نزاع داخلي إلى نزاع عالمي نتيجة لتداخل مصالح إقليمية ودولية أخرى تساعد على تأجيج هذه الصراعات لتحقيق مصالحها. وفي اليابان تم بناء مدينة مضادة للزلازل بديلة لمدينة طوكيو المعرضة لزلزال مدمر.

6-    العوامل النفسية لبعض القبائل ودعاوى التهميش، والإحساس بالنقص في جميع صوره والشعور بالدونية بين بعض طبقات المجتمع، وظهور الحقد الطبقي نتيجة لتراكمات نفسية واجتماعية عميقة يؤدي إلى الشعور بالحقد والكراهية ضد أفراد المجتمع الآخرين، وزيادة التوتر وكثرة النزاعات بين شعوب هذه الدولة أو بينها وبين السلطة الحاكمة[57].

7-    كما أن هناك بعض العوامل الأخرى التي تساعد على زيادة التوتر والصراعات بين الشعوب مثل تدني مستوى المعيشة وتباين الإمكانات المادية وتغيرات التركيبة السكانية للمجتمع نتيجة للهجرات والنزوح والتأثر بالأفكار الأجنبية وتوافر الأسلحة بكميات كبيرة في القرى والأرياف إضافة إلى التحولات التكنولوجية التي غيرت كثيراً من المفاهيم والعلاقات بين السكان كوسائل الاتصال وغيرها.

 

   II.                     المصادر الخارجية للنزاع

إن قيام الدول الكبرى الاستعمارية باحتلال كثير من دول العالم فقامت بتقسيمها وترسيم حدودها وتشريع وجودها وتكريس الاعتراف بها في المحافل الدولية دون مراعاة للتركيبة القومية والطائفية والإثنية والقبلية لتلك الشعوب مما أدى إلى تجزئتها وتقسيمها كما حصل في البلدان العربية بعد تقسيم "سايكس بيكو" 1916. إن النزاع الإقليمي على الحدود ومحاولة تعديل الحدود بين الدول ما فتئت تنشب من أجلها الحروب، كما حدث بين العراق وإيران على شط العرب، والخلاف الحدودي بين الصومال وأثيوبيا على منطقة أوجادين، والحرب الحدودية بين إريتريا وأثيوبيا، والخلاف الحدودي بين السودان ومصر حول مثلث حلايب، وغيرها من النزاعات الحدودية الأخرى. كما كانت الدول الكبرى تحتل وتسيطر على كافة الموارد والمواد الاولية والبشرية، وللنزاع مصادر خارجية كثيرة منها:

1-    ضعف المنظمة الدولية وخضوعها لرغبات وتوجهات الدول الكبرى وعدم قدرتها على تحقيق التوازن والمساواة القانونية بين الدول، بل أصبحت هذه المنظمة سببا رئيسيا لاستمرار كثير من الصراعات بسبب عدم حيادها وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول إرضاءَ لرغبات من يمدونها بالمال.

2-    انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز الأحادية القطبية التي انفردت بها الولايات المتحدة الأميركية، فعمدت إلى إعادة ترتيب الأوضاع في العالم بما يتلاءم مع المستجدات الحاصلة وبما يخدم مصالحها، تدخلت في شؤون الدول والشعوب وفرضت على الدول الأخرى دفع تكاليف تدخلاتها. تسبب ذلك في حدوث نزاعات ومشاكل في كثير من دول العالم. وما تزال آثارها ماثلة حتى الآن.

3-    الصراع الإيديولوجي العالمي بين العقائد والمجموعات الدينية الأخرى، كالصراع بين البروتستانت والكاثوليك في أوروبا. والصراعات بين المجموعات الدينية الواحدة، كالصراع المذهبي في البلاد الإسلامية بين السنة والشيعة والصراع بين الإيديولوجية الاشتراكية والرأسمالية.

4-    الفجوة الاقتصادية الهائلة بين الدول الكبرى ودول العالم الثالث، والصراع الاقتصادي بين هذه الدول لإيجاد موارد اقتصادية جديدة لها كالتنافس الاقتصادي بين أميركا والصين قي أفريقيا، وفي بحر الصين وبين مجموعات أخرى كمجموعة دول "البريكس[58]" وغيرها.

5-    احتكار الدول الكبرى لوسائل القوة والتقانة وحرمان الدول الفقيرة منها.

6-    التنافس الشديد بين الدول في صناعة وتطوير الأسلحة والتكنولوجيا والسباق نحو التسلح.

7-    الأطماع الدولية في السيطرة على المواقع الاستراتيجية العالمية كالقرن الأفريقي ومنطقة البحيرات العظمى ومعظم المضايق في البحار والمحيطات والجزر العالمية لضمان حرية التجارة وتسهيلا لتحركات الأساطيل البحرية العسكرية.

8-    الأطماع الدولية للسيطرة على الثروات الطبيعية من النفط وغيره من المواد الأولية التي تستخدم في الصناعة وغيرها من الثروات التي تذخر به القارة الأفريقية.

9-    حروب المياه التي يشهدها العالم ومحاولة الدول الكبرى السيطرة على منابع المياه العذبة في العالم.

8-  أشكال النزاعات

 

عرف الإنسان منذ بداية وجوده على سطح الارض أشكالا من الصراع والتناقض، سواء أكان هذا الصراع بينه وبين بيئته المحيطة أو بينه وبين أبناء جنسه، وكان مطالبا دوما بمجابهة هذه التحديات والخروج منها بما يحقق مصلحته واستمراره، ثم اصبح مطالبا بما يحقق مصلحة أسرته ثم قبيلته ثم بلاده، وهذا كله هو ما أصبح يعرف اليوم بالأزمة أو بالنزاعات المختلفة. ويعتبر علماء النفس والاجتماع أن النزاع هو كل تنافس بين الأفراد والجماعات في المجتمع، وبناء عليه انقسم النزاع إلى سلمي وعنيف:

·        النزاع السلمي: يتحقق هذا النزاع من خلال تحقيق المصالح والمطالب المتعارضة بإستخدام آليات مقسمة الى دساتير وقوانين، تكوين الأسري والعشائري، نظم التحاكم، والأحكام الدينية، الأعراف والتقاليد، الحوار والمؤتمرات. وتتراوح هذه الآليات بين كونها غير رسمية وكامنة في العقل الاجتماعية والفردي، وبين كونها رسمية ومدونة، ومن أمثلة الأخيرة الانتخابات وما يعطيه الدستور من حقوق للأفراد والجماعات من وسائل للتعبير والمطالبة بالحقوق العامة والخاصة. وتسمى هذه الضوابط مجتمعة "نطاقات السلام" فتمنع تلك التناقضات من أن تتحول إلى نزاع عنيف ومدمر[59].

·        النزاع العنفي: يصبح النزاع عنيفا عندما تتخلى الأطراف عن الوسائل السلمية، وتحاول السيطرة أو تدمير قدرات المخالف لها، وإجباره على الالتزام بتنفيذ رغباتها وتحقيق أهدافها ومصالحها الخاصة. وكما ذكر سابقا فإن النزاع لا يحدث إلا في ظل توفر ظروف موضوعية أو ذاتية محددة، مسببة له. كذلك "يبرر البعض النزاع العنيف وخصوصا الحرب العالمية الثانية 1939– 1945 كوسيلة للتخلص من العنف الصارخ الذي نفذه هتلر وألمانيا النازية ضد شعوب ودول أوروبا". "وفي عصر الأسلحة النووية الحالي وإمكانية حدوث إبادة جماعية نووية، فإن بعضا ممن أيدوا الحرب العالمية الثانية لا يبررون شن حرب عالمية شاملة بالرغم من تبريرهم استخدام العنف كوسيلة لتحرير الناس من الأنظمة السلطوية القمعية التي تمارس القتل والتعذيب وتعمل على الحد من الحريات والحقوق بشكل كبير"[60].

أما وسائل فض النزاعات، فيمكن تقسيمها الى وسائل وقائية ووسائل علاجية.

1)    الوسائل الوقائية: هي التي تمنع حدوث النزاعات (الصراعات) قبل حدوثها. وهي متعلقة بطرح الرؤى والأفكار الإيجابية، الشمولية والمبادىء التي لا يختلف عليها لإثنان، كالتأكيد على الإخوة الإنسانية أو الدينية أو الوطنية والحرية السياسية، ونشر ثقافة السلام وتغليب أفكار اللاعنف واللجوء الى التفاوض والإلتزام بالعهد والمواثيق والمعاهدات في وثيقة تتضمن إحترام الأطراف كافة، والتأكيد على التعايش السلمي يبنى على أساس الإعتراف بالآخر والإحترام المتبادل وحفظ الحقوق الإنسانية والوطنية ونبذ المشاحنات المذهبية الطائفية، وتوحيد المناهج التحليلية الداعية الى السلاح والمحبة في المدارس الحكومية والأهلية.

2)    الوسائل العلاجية: يمكن اللجوء اليها في حال نشوب النزاعات وتوسعها كتفعيل مبادىء الدعوة الى التفاوض والصلح واللجوء الى المحاكم والقضاء والتدخل الدولي والإنساني السريع في حل النزاعات المختلفة، لحماية السكان المدنيين من أثار العمليات العسكرية والأطراف المتصارعة، على أن لا تؤدي أثار النزاع الى تعريض حياتهم ومستقبلهم للخطر، وعليه إستخدام قوات الردع في النزاعات المسلحة. مثال ذلك: تشكيل قوات الردع العربية، بقرار عربي لوقف الإقتتال الداخلي في لبنان، بإستخدام القوة لردع الأطراف المتنازعة[61].

مثال على ذلك: تشكيل قوات الردع العربية، بقرار القمة العربية لوقف الإقتتال الداخلي في لبنان، بإستخدام القوة لردع الأطراف المتنازعة.

أ- أبعاد النزاع العنيف

حدد بعض الباحثين أبعاد النزاع العنيف في أربعة عناصر يلزم التمعن في كل نزاع لتحديده بدقة بقصد وضع سياسات منع نشوء النزاع أو التخفيف منه. وهذه العناصر هي:

1-    المسائل الجوهرية (الأصلية)، وتكون في احتدام الجدل بشأن التنافس على الموارد الطبيعية، السيطرة على الحكم، تحديد صلاحيات الأقاليم والمناطق والإيديولوجيات الحاكمة.

2-    الأطراف أو مجموعات النزاع، سواء أكانت عرقية، أم دينية، أم إقليمية، أم تيارات سياسية.

3-    أنواع القوة المستخدمة وطرق الإكراه، مثل أسلحة الدمار الشامل، الإرهاب، الانقلابات، الإبادة الجماعية، انتهاك حقوق الإنسان والتطهير العرقي.

4-    الفضاء الجغرافي، حيث تتم المجازر وعمليات التخريب، والنزاعات الدولية والداخلية.

ينشأ النزاع العنيف من أسباب مركبة تتداخل فيها أبعاد كثيرة للنزاع، وهناك عوامل رئيسية أو متغيرات ترجح تطور النزاع إلى عنف، أو أنه سينتهي بشكل سلمي.

ب- عوامل الانتقال بين مستويات السلام والنزاع

تحدد العوامل الواردة أدناه إجراءات منع النزاعات في مختلف المستويات، وهذه العوامل هي:

1-    شدة وحجم الشكاوى ومواقف التذمر ومحاولة التخفيف من حدتها لمنع تفاقمها ووصولها إلى الأسوأ.

2-    مدى إدراك الأطراف لاختلافاتهم وتطلعاتهم ومواقفهم تجاه بعضهم.

3-    حجم التفاعل المباشر والإتصالات التي تملكها الأطراف في تعاملها مع بعضها البعض.

4-    حجم التلاحم والإلتصاق بين قيادات الأطراف (القوى) والقواعد في الدوائر الإنتخابية.

5-    حجم السلوك العدائي ومحاولات لجمه.

6-    المدى الذي يمكن أن تصل إليه تهديدات الأطراف باستعمال السلاح.

7-    عدد الأحزاب والجماعات في كل طرف من أطراف النزاع.

لإيجاد حل مناسب أو لتجنب تطور الأزمة إلى نزاع عنيف يجب إحتواء نزاع قائم أو منع آخر كامن يعتمد على مدى إدراك العوامل والأسباب والظروف المتعلقة بذلك النزاع.

ج-  محددات النزاع العنيف والسلام

إن الأسباب التي تؤدي الى السلام قد تكون نفسها التي تؤدي للنزاع، ولكن هناك إختلاف في التعامل العوامل  الأيديولوجية والسياسية، الاقتصادية والاجتماعية، الإثنية والقومية. وهذه العوامل من الممكن أن تكون أسباباً للعنف أو أسباباً للسلام. وبالتالي يمكن تقسيم محددات النزاع إلى بنيوية، ووسطية، ومباشرة.

1-    عوامل البنيوية، عوامل تتعلق بظروف المجموعات الأساسية انهيار القيم والتقاليد، والفقر، والتهميش الديني والإثني التدهور البيئي، والنمو السكاني، وندرة الموارد، والتنافس. وتظهر نتائج العوامل البنيوية بعد فترة طويلة من التطبيقات.

2-    عوامل الوسيطة،هي عوامل تحول الأوضاع البنيوية إلى ردود أفعال عنيفة، أو إلى سلوك طرق سلمية للتعامل مع المصالح المتناقضة. كما أن أثرها أكثر مباشرة من العوامل البنيوية. ومن أٍسبابها: برامج الإصلاح الاقتصادي، السياسات الحكومية، والمنظمات الإجتماعية، ومشاكل التحرر السياسي، والتسلح.

3-    عوامل المباشرة، هي اعمال واحداث تؤدي بشكل مباشر الى تزعزع الوضع الأمني، التي تشعل أعمال العنف. ومثال ذلك اتخاذ الحكومة إجراءات متشددة نحو جماعة مضطهدة مما يدفعها إلى العصيان والتمرد.[62]

د-  الواقع العربي في ضوء الواقع القائم

 يطرح د. حليم بركات[63] نوعين من الأسئلة حول النزاع ومفهومه وسبل العلاج.

النوع الأول: يتعلق بطبيعة الانقسامات العربية وتتضمن عددا من الأسئلة: "ما هي الاوضاع العامة التي تسهم في استمرار الولاءات التي تتعارض مع الانتماء العربي؟ كيف تتكامل الانقسامات التقليدية وتعمل على ترسيخ بعضها البعض؟ إلى أي حد تشكل الولاءات العمودية (الطائفية، القبلية، الاثنية والمحلية) أشكالا مقنعة من التمييز الطبقي وأدوات للإبقاء على النظام السائد؟ كيف يمكن تعزيز الوعي القومي والوعي الطبقي؟ ما هي طبيعة التناقضات الاجتماعية في المجتمع العربي"؟

النوع الثاني: يتعلق بطبيعة عملية التحرر والتغيير وتشمل الاسئلة التالية: "ما العمل في سبيل تحقيق الاندماج الاجتماعي؟ من يتحمل مسؤولية هذه المهمة التاريخية؟ لماذا فشلت الحركة الوطنية  حتى الآن في اظهار اهتمام حقيقي بقضايا التحرر الاجتماعي بما فيه تحرر المرأة؟ أين يبدأ التغيير وعلى أي مستوي ومن أجل ماذا ومن قبل من؟ كيف تقوم التحالفات بين الاتجاهات الوطنية المختلفة وعلى أي أسس؟ ما هي الاستراتيجية المنهجية التي يمكن اعتمادها لتحقيق الاندماج الاجتماعي والوحدة السياسية "؟            

"ويرى أننا كعرب نواجه فيما يتعلق بمسألة الاندماج الاجتماعي والسياسي اختيارا مصيريا بين تصورين   بديلين للواقع وللمستقبل العربي، تتوسطهما احتمالات توفيقية يكون بعضها أقرب إلى أحدهما منه إلى الآخر".[64]

 

1.     التصور المنطلق من مفهوم الانتماءات الخاصة.

يقوم هذا التصور بالمحافظة على الوضع التقليدي القائم، أي بمزيد من التجزئة، خلق كيانات أخرى كأوطان قومية لجماعات طائفية وإثنية.

يتمثل هذا التصور بالإتجاهات الطائفية الملتزمة بإقامة وتثبيت كيانات وأنظمة تؤمن سيطرة جماعة دينية على حساب جماعات أخرى ومدعومة من العدو.

ويرى أن يعمل من ضمن إطار خارجي تآمري تحريضي أو من ضمن اطار محلي يسعى لترسيخ الواقع القائم المتخلف فيصبح المستقبل استمرارا للماضي والحاضر ونسخة تكرارية شبه متطورة عنه ويخدم القوى المسيطرة على مقدرات الوطن العربي. وقد يعالج هذا المنظور الازمات، ولكنه لا يقصد إلى حلها وازالتها بقدر ما يقصد إلى احتوائها ومنعها من تفجير الاوضاع القائمة.                

2.     التصور الوطني التقدمي: يقوم بتحول المجتمع تحولاً جذرياً، باستبدال النظام السائد بنظام جديد، يؤمن تحقيق الوحدة القومية والعدالة الإجتماعية والمشاركة الديمقراطية والتنمية الإقتصادية والإدارية.

ويعاني هذا التصور، "من مشكلات التجزئة القومية، الفقر، الفجوة بين الطبقات الميسورة والطبقات المحرومة، ومشكلة السلطوية في علاقات الجماعات والأفراد بالمؤسسات والأنظمة القائمة، ومشكلة الإغتراب المواطن في وطنه".

فالمجتمع العربي المفكك، شبه الإقطاعي ـ شبه البرجوازي، المتخلف، العاجز تجاه التحديات التاريخية، الطبقي، المغلوب على أمره والخاضع لقوى استعمارية، السلطوي، الغيبي يحمل في داخله عوامل فنائه بتحوله إلى مجتمع موحّد في تنوعه، قومي في ولائه، متحرر تقدمي في منطلقاته، منيع، علماني، ديمقراطي وإشتراكي في مضامينه. (ان تحقيق هذا الامر ليس سهلا بل صعبا وشاقا ويحتاج لوقت طويل ، لكن صعوبة الشيء لا تعني استحالة التغلب عليه، ويعني  "رفض الواقع القائم الهزيل اللاإنساني والعمل باتجاه إقامة مجتمع أفضل ")[65].

 

  تسوية النزاعات الدولية

تنشأ النزاعات الدولية تقريباً للأسباب ذاتها التي تنشأ عنها نزاعات الأفراد، مع أن نتائج الأولى أشد خطراً وأعمق أثراً. الوسائل الدولية لإدارة الأزمات متعددة ومتفاوتة من خلال وسائل ديبلوماسية الحوار، المفاوضات، الوساطة، التوفيق، التحكيم والمقاضاة، وبينت الإتفاقيات الدولية الكبرى التي أبرمت منذ مؤتمر لاهاي لإقرار السلام ، الكثير من هذه الوسائل وما يتصل بها من إجراءات وأحكام، فتكللت إتفاقية لاهاي الأولى سنة 1907 عن الوساطة والمساعي الحميدة والتحقيق والتحكيم، وسرد النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية كل ما يتصل بالسبل القضائية. وعالجت معاهدة التحكيم العامة المبرمة في جنيف سنة 1928 موضوع التوفيق، كما تعرضت أيضاً للقضاء والتحكيم.

ويبدو من ذلك أن هناك العديد من الوسائل يمكن اللجوء إليها لتسوية النزاعات، فهناك:

أولاً: الحوار

ويعتبر وسيلة من وسائل الإتصال بين الناس، بحيث يتعاون المتنازعون على معرفة الحقيقة والتوصل إليها، ليكشف كل طرف منهم ما خفي على صاحبه منها، والسير بطريق الإستدلال الصحيح للوصول إلى الحق. والحوار مطلب إنساني، تتمثل أهميته باستخدام أساليب الحوار البناء لإشباع حاجة الإنسان للاندماج في جماعة، والتواصل مع الآخرين، فالحوار يحقق التوازن بين حاجة الإنسان للاستقلالية، وحاجته للمشاركة والتفاعل مع الآخرين. كما يعكس الحوار الواقع الحضاري والثقافي للأمم والشعوب، حيث تعلو مرتبته وقيمته وفقاً للقيمة الإنسانية لهذه الحضارة وتلك. وتعد الندوات واللقاءات والمؤتمرات إحدى وسائل ممارسة الحوار الفعال، الذي يعالج القضايا والمشكلات التي تواجه الإنسان المعاصر. والحوار يساعد على عرض الأفكار من قبل الطرفين والحجج والأدلة على صحة الطريق الذي يمشون به، فهو يدفع الشبهات ويجعل المحاور قادراً على عرض أسبابه وغاياته وتوضيح الشبهات. يمكن المحاور من دعوة الطرف الآخر لأمر ما بشكل حضاري وفعّال، حيث إنه يقوم بعرض كل ما لديه بشكل مريح. يمكن للحوار أن يقرب وجهات النظر، ويزيل الفجوات بين المتحاورين ويبعد التباغض والتناحر فيما بينهم. إظهار الحقائق، وكشف جميع الأكاذيب والترهات. ينشر المعارف والثقافات، ويعزز من كمية معلومات المتحاورين حول مواضع معينة[66].

ثانياً: المفاوضات

في نزاع اجتماعي أو سياسي يختصم فيه الطرفان المختلفات في قوة على مصالح متناقضة، فإن للطرف الذي يعتقد أنه واقعٌ ضحية ظلم موصوف أن يرى أن اختبار قوة وحده أن يتيح له نوالَ الاعتراف بحقوقه. مع ذلك، تقضي مصلحةُ الطرفين المتواجهَين نفسُها أن يلتقيا في محاولةٍ للتحادث بهدف التوصل معًا إلى حلٍّ تفاوضيٍّ للخلاف الذي يختصمان عليه. لذا فإن من حسن التدبير الاستراتيجي، قبل نقل النزاع إلى العلن والشروع في الصراع، اقتراحُ فتح باب المفاوضات. قد يتفق للخصم أن يتأبى من فوره على أي تفاوُض. أما إذا قبل عقد لقاء، فينبغي عندئذٍ إبلاغ ممثلي الطرف الخصم بمطالب الحركة، مع تحديد الهدف المقرَّر بلوغه[67]. وإذا كان ينبغي تجنب أي موقف من شأنه أن يزيد النزاعَ صلابةً من دون جدوى ويعززَ العوائقَ القائمة، مما قد يزيد من صعوبة أيِّ حلٍّ متاح، فمن المناسب إظهار أقصى الحزم والإصرار. وما إنْ تشتبك المفاوضاتُ في توازُن قوى متناوئة مقرَّر في وضوح حتى تجنح هذه المفاوضات إلى التنافس أكثر منها إلى التعاون بكثير. هذا وينبغي للمفاوضات أن تقوم على أساس معايير موضوعية، وليس على معطيات شخصية، كتأكيد حسن النوايا. إن التعبير عن النية لحل النزاع ليس كافي بل القراراتِ وحدَها هي التي يمكن لها أن تقدِّم حلاًّ للنزاع. لذا ينبغي على المتفاوضين أن يجتهدوا معاً في صوغ تسوية من شأنها أن تلبي مصالح كل طرف كأفضل ما تكون التلبية.[68] التسوية الجيدة هي التي تتيح ألا يكون أحدٌ من أركان الصراع خاسراً، بل أن يكونوا جميعاً رابحين مع ذلك، فمن النادر التمكن من عقد اتفاق على الفور. فإذا ما وصلت المفاوضاتُ الأولية إلى طريق مسدود، ينبغي تعليقُها، وليس قطعها نهائياً، بما أن الهدف من العمل المباشر سيكون استئناف المفاوضات. وقد يكون من المفيد الإبقاء، بقدر ما يكون ذلك ممكناً، على بعض الاتصالات مع الخصم طوال فترة النزاع. ولعل من الميسور استدعاء وساطة طرف ثالث. وإلا، فإن بمقدور الصراع وحده إتاحة الفرصة لبلوغ اتفاق تفاوضي، وإن كان من شأن المفاوضات الأولية هذه أن تتيح للطرفين إمكانية معرفة أحدهما الآخر معرفةً أفضل وسبر كل منهما لنوايا الآخر. كما ينبغي لهذا الوقت أن يتيح أيضًا التحضير لاختبار القوة.

ثالثاً: الوساطة
الوسائل البديلة لحل النزاعات او الوساطة، هي مصطلحٌ طوّره الإنسان منذ زمن التجارة الفينيقية، مروراً باليونان القديمة والحضارة الرومانية، إلى أن أصبحت، اليوم، أداة أساسية تسدي الإسعافات الأولية والأخيرة لشركات تجارية تعاني من مشكلات داخلية وخارجية، وتعمل على إصلاح علاقات العمل والشؤون الشخصية، بأداءٍ عملي وإنساني لا يعرفه القضاء أو التحكيم. هي طريقة بديلة ومختلفة لحل النزاع بين طرفين أو أكثر، وبلوغ نتائج ملموسة وواضحة. يكون دور الوسيط أو الطرف الثالث مقتصراً على متابعة الأطراف الأخرى في عملية التفاوض على تسوية أو حل للمشكلة موضوع النزاع، سواء أكانت هذه المشكلة ذات طابع تجاري، أو قانوني، أو ديبلوماسي، أو اجتماعي أو عائلي. لكن نحن في المركز اللبناني للوساطة التابع لغرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت، نتابع القضايا التي تتعلق بالنزاعات التجارية فقط.[69]

 

رابعاً: التحكيم

يُعرَّف التحكيم بأنه إتفاق أطراف علاقة قانونية معينة عقدية أو غير عقدية على أن يتم الفصل في المنازعة التي ثارت بينهم بالفعل أو التي يحتمل أن تثور، عن طريق أشخاص يتم إختيارهم كمحكمين ، حيث يتولى الأطراف تحديد أشخاص المحكمين أو أن يعهدوا لهيئة تحكيم، أو إحدى هيئات التحكيم الدائمة أن تتولى تنظيم عملية التحكيم وفقاً للقواعد أو اللوائح الخاصة بهذه الهيئات أو المراكز [70].

ويتجه فريق آخر من الفقه إلى تعريف التحكيم بأنه "نظام قضائي خاص، يختار فيه الأطراف قضاتهم، ويعهدون إليهم بمقتضى إتفاق مكتوب، بمهمة تسوية المنازعات التي قد تنشأ أو نشأت بالفعل بينهم بخصوص علاقاتهم التعاقدية أو غير التعاقدية والتي يجوز حسمها بطريق التحكيم، وفقاً لمقتضيات القانون والعدالة وإصدار قرار قضائي ملزم لهم .

فالتحكيم إذن هو عبارة عن وسيلة قانونية أفسح المشرع لها المجال للفصل في المنازعات المتفق على عرضها على التحكيم كنظام موازٍ للقضاء لا يخلو من مزايا، حيث ينتهي إلى حكم يتقيد به الفرقاء ويؤدي إلى حسم النزاع الذي شجر بينهم ، شأنه في ذلك شأن القضاء ولكن بسرعة ملحوظة وبقدر أقل من الجهد.

والتحكيم قوامه إرادة الأطراف، إذ تهيمن هذه الإرادة على نظام التحكيم بأكمله بدءً من الإتفاق على المبدأ ذاته، مروراً باختيار المحكمين وتحديد عددهم وإختصاصهم، وتحديد الجهة التي تتولى الإشراف على التحكيم وتحديد الإجراءات واجبة التطبيق، والواجب إتباعها لحل النزاع، والقانون الذي يحكم ذلك النزاع، مما يُشعر الأطراف بأنهم يشاركون في عملية التحكيم .

وقد أدى ذلك كله إلى تزايد إقبال الأفراد والمؤسسات والشركات على اللجوء إلى التحكيم كأسلوب لحل منازعاتهم، خاصة في مجال المعاملات ذات الطابع الدولي، حيث يكون القاضي أجنبي عن كل أو بعض الأطراف، وكذلك شأن القانون الذي يحكم النزاع سواء كان يحكم موضوعه أو إجراءاته [71].

 الخلاصة

إن قانون التناقض يحكم العلاقات بين البشر والطبيعة منذ بداية الوجود والى ما لا نهاية. فقانون صراع الاضداد، يحدد وجود القوى المتنازعة في الزمان والمكان والى اختلاف مصالحهم وأهدافهم وأهوائهم يؤدي الى الصراع بينهم. وكذلك قانون النزاعات ، يؤكد إنه تراكم القهر والظلم والإضطهاد وعدم المساواة، الإستغلال والإحتكار، الذي يؤدي الى الإنتفاض والثورة، وعليه إنه ينتصر ويحدث عملية تغيير شاملة، يوصل ذلك الى قانون نفي النفي، إذ أنه تغيير الظروف وتراكم الظلم والقهر والذي  ينجم عنه صراع، يحدث تغييراً جذرياً ينفي وجود الآخر الذي بدوره نفى من سبقه.

فالنزاع ليس وليد ساعته، بل نتيجة لتراكم عوامل متعددة، داخلية وخارجية، سياسية، إقتصادية، إجتماعية، أيدولوجية، ثقافية، نفسية، طائفية وإثنية. وله شكلان سلمي وعنفي، ولديه جانبان إيجابي وسلبي، عليه أن يدفع أحدهما الى التطور والنهوض والسلام... والسلبي يمكن أن يؤدي الى الحروب والدمار والكوارث. كما أن النزاع (الصراع) لا يقتصر على الوضع الداخلي، بل لديه بعداً اقليمياً وآخر دولياً، وكلاهما يؤثران على النزاع الدخلي سلباً أم إيجاياً. فإذا كان العامل الذاتي الداخلي ضعيفاً وغير قادر على حسم الأمور لصالحه، يصبح العامل الخارجي عاملاً رئيسياً في الأزمة، يتحكم فيها وفي مسارها ومستقبلها بما يخدم مصالحه والتي تتعارض مع مصالح الشعوب المتنازعة داخلياً. فالنزاعات الإقليمية والدولية ناتجة عن أطماع لبسط النفوذ والسيطرة وفي الموارد والثروات والمواقع الإستراتيجية وفي المعابر البرية والبحرية. كما أن النزاعات والحروب بين الدول حول التوسع والإكتشافات والسيطرة خصوصاً بعد إكتشاف قارة أميركا الهجرة الغربية إليها والتي أدت الى إبادة سكانها الأصليين.[72]

 بالعودة الى الوضع اللبناني، فإن تعريف النزاع وأسبابه وأشكاله ومفاهيمه والتدخلات فيه بين الداخل والخارج، والتراكمات التي فاقت أزماته، والصراع الذي إتخذ طابعاً سلمياً حيناً وعنيفاً حيناً آخر، تنطبق جميعها على الوضع في لبنان. فتركيبة لبنان الطائفية، والنظام السياسي اللبناني الطائفي القائم على صيغة 1943 والإمتيازات التي خولها الميثاق لطائفة على حساب الطوائف الأخرى، والتي نجم عنها عدم مساواة في الحقوق، وتفاوتاً في المسؤوليات والوظائف، وحرماناً لمناطق فقيرة وتنمية لمناطق على حساب أخرى، والذي زاد في تفاقم الأزمة، وجود فوارق إقتصادية إجتماعية طبقية بين اللبنانيين ككل، وبينهم وبين النظام اللبناني. حصلت هذه العوامل اضافة الى عوامل أخرى، العدوان الصهيوني المتكرر على لبنان والوجود الفلسطيني المسلح فيه، والوجود السوري الهادف في فرض سيطرته ونفوذه في كل مدخل دولة إقليمية ودولية في الأزمة، زاد صعوبة وتعقيداً، لأن مصالحاه تتضارب في لبنان، ولدى كل منها علاقات مع فئة أو حزب أو جهة سياسية يقدم لها الدعم والمساندة المالية والتسليحية، أسهمت جميعها في تأجيج الأزمة وتأخير الوصول الى حلول لها.  كما سعت الدول والشعوب التي تعيش أزمات وحروب داخلية وخارجية الى البحث عن حلول للنزاع، فكانت اقتراحات الحلول والمبادرات والوسطات والحوار والتحكيم والمقاضاة وسائل لأنهاء النزاع، نجح بعضها وباء بعضها بالفشل. ويعود ذلك الى أن:" الظاهرة النزاعية شديدة التعقيد، ومهما اجتهد الفكر في ضبطها وتحديد مدلولاتها فإنه سيبقى عاجزاً وقاصراً أمامها، لأن الأمر يتعلق بالسلوك البشري الاجتماعي والذي يستحيل وضع قواعد ثابتة له"[73].



[1] إدارة اﻻزمة في الحدث اﻻرهابي, اللواء الدكتور احمد جلال عز الدين دار النشر بالمركز العربي للدراسات اﻻمنية والتدريب في الرياض 1990

[2] أرتسيباسوف، إيفان، خلافاً للقانون الدولي، دار التقدم موسكو، 2003 ص 9.

[3] بستاني، فؤاد، لبنان، مباحث علمية واجتماعية، منشورات للجامعة اللبنانية، 1969.

[4] Ahmad, Noureddine: The Development of the government Educational Policy and Practise in the Lebanon 19201975, unpublished Ph.D Thesis for the University of Wales, College of Cardiff, UK, 1989.

[5]  الأمم المتحدة، الموسوعة السياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994 ص 77 و 78 .

[6] مرصد السلم الاهلي والذاكرة في لبنان إستعادة سلطة المعايير, جمعية رمزي يوسف عساف الخيرية. بيروت المكتبة الشرقية 2015، ص 50.

[7] جنبلاط، كمال، حقيقة الثورة اللبنانية، 1978، لجنة تراث القائد الشهيد

[8] إدوار عازار أستاذ علوم سياسية من مواليد لبنان، درس العلاقات الدولية بجامعة ستانفورد

[9] إبراهيم العبيدي، مفهوم النزاعات، , 2016، العدد 30، دار النشر للابداع

[10] مصدر سابق، الموسوعة السياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994 ص 22 و 25 .

[11] حماد، كمال، منشورات الدفاع الوطني اللبناني، العدد 27، كانون ثاني 1999 ص 60.

[12] www.aljazeera.net/special files إعداد قسم البحوث والدراسات

[13] Khalaf, Massoud: Le Liban contemporain, l'encyclopédie historique et géographique, partie 16, édition spéciale, Page 55, 2001.

[14] كينيث بولدينولد في 24 أكتوبر 1930 هو عالم اجتماعي نرويجي، عالم رياضيات، والمؤسس الرئيسي لدراسات السلام والصراع.

 

[15] مايكل نيكلسون - هو من أكثر حاملي الشهادات في تاريخ هذا العالم، يحمل 22 شهادة ماجستير، مع بكالوريوس واحدة، و شهادتي زمالة، وواحدة دكتوراة، وثلاثة تخصص

[16] Traboulsi, Fawaz: L'histoire du Liban contemporain, Riyad El Rayess pour les livres et publications, première édition, Février, Page 15, 2008.

 

[18] كريس بورغ كان نجاحا باهرا في أيرلندا وبريطانيا والولايات المتحدة مع عام 1986 بلغ "سيدة في الأحمر".

[19] دينا زينس هي عالمة اجتماعية اميركية،وعالمة علوم سياسية واجتماعية

[20] هولستي 8 أكتوبر 1881 - بالو ألتو، كاليفورنيا،  أغسطس 1945 سياسي و صحافي و دبلوماسي فنلندي

[21] شوقي، مريم، الحوار المتمدن، مواضيع وأبحاث 21/1/2014، ar-windsorbrokers.com

[22] لينين كان ثوري روسي ماركسي وقائد الحزب البلشفي والثورة البلشفية، كما أسس المذهب اللينيني السياسي رافعاً شعاره الأرض والخبز والسلام.

[23] مؤلفات ماوتسي تونغ المختارة، المجلد الأول، ص 464، في التناقض، عمومية التناقض / الصفحة الاولى/ دار النشر باللغات الاجنبية / بكين 1968

[24] المرجع السابق نفسه، ص 461. في التناقض، عمومية التناقض / الصفحة الاولى/ دار النشر باللغات الاجنبية / بكين 1968

[25] Pachado.org Latest Arabia, by Stephen Oken Agwet, 6/4/2011. 

[26]عهد المشاعي هي  المرحلة الأولى للتطور البشري، حيث كان البشر يعيشون كالقطعان

[27] Pachado.org Latest Arabia, by Stephen Oken Agwet, 6/4/2011.

[28] كتاب، التعامل مع النزاع، مجموعة من الباحثين، شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، مؤسسة الناشر للدعاية والإعلان، ص 4.

[29] كتاب، التعامل مع النزاع، مرجع سابق  ، ص 5.

[30] سنو، عبد الرؤوف، حرب لبنان 1975 – 1990 تفكك الدولة وتصدع المجتمع، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية بيروت، 2014.ص 267.

[31] أشقر، جلبير، ذخائر لبنان، طبع في دار النهار لطباعة، بيروت، 1991 ص 33.

[32] الشعلان، فهد أحمد، إدارة الأزمات، الأسس – المرحل – الآليات، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية، الطبعة الأولى، 2005، ص 220-230

[33] الشعلان، فهد أحمد، إدارة الأزمات، الأسس – المرحل – الآليات، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية، الطبعة الأولى، 2005، ص350-356

[34] تويني، غسان، مسارات السلام ودبلوماسية الـ 425، دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1999، ص 89

[35] الأحدب، عزيز، فخر الدين، مؤسس لبنان الحديث، دار الكتاب اللبناني الطبعة الثانية، بيروت،  1974 ص 53.

[36]بيتكوفيتش، قسطنطين، لبنان واللبنانيون، مذكرات القنصل الروسي في لبنان في الفترة بين 1896-1882 نقلها إلى العربية يوسف عطالله، دار الهدى للطباعة والنشر، الطبعة الأولى بيروت 1986 ص 95.

[37] Al Chaiiri, Saleh Yehya: Le Règlement des différents internationnaux pacifiquement, Librairie Madbouli, Le Caire, 2006.

[38] مؤلفات ماوتسي تونغ المختارة، المجلد الأول، ص 453، / دار النشر باللغات الاجنبية / بكين 1992

[39]حلاق، حسان، التيارات السياسية في لبنان، دار النهار للطباعة، بيروت، 1943-1952، ص 213

[40] اعداد عبدالرزاق الصافي، قاموس السياسة،  دارالفارابي1978. ص 179.

[41]بولس، جواد، تاريخ لبنان، دار النهار للنشر، 1973، ص 230

[42] بولس، جواد، تاريخ لبنان، دار النهار للنشر، 1973، ص 198

[43] البيان الختامي للمنتدى الدولي لمناهضة الحرب والعولمة المنعقد في بيروت 17-9/9/2004.

[44] إبراهيم، العبيدي، مفهوم النزاعات، 28/12/2016، Mawdoo3.com

[45] إبراهيم موسى، تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، دار المنهل اللبناني، بيروت، 2011، ص 145.

[46] حماد كمال، الوطن ولبنان،  منشورات الدفاع الوطني اللبناني، العدد 27، كانون ثاني 1999، ص 69.

[47] إسماعيل، عادل، السياسة الدولية في الشرق العربي، الجزء الرابع، دار النشر للسياسة والتاريخ، بيروت 2007، ص 264.

[48] مركز دراسات الوحدة العربية, قائمة المنشورات, 2015 ص 78

[49] عارف، العبد, لبنان والطائف تقاطع تاريخي ومسار غير مكتمل, مركز دراسات الوحدة العربية 2001، ص 99

[50] تويني، غسان، مسارات السلام ودبلوماسية الـ 425، دار النهار للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1999، ص 55

[51] جريدة النداء اللبنانية هي جريدة لبنانية،   في 7-11-1991، على الصفحة رقم 8 – الصفحة الثانية

[52] حماد كمال، الوطن ولبنان ، منشورات الدفاع الوطني اللبناني، العدد 27، كانون ثاني 1999 ص 33.

[53] وثائق: الحرب اللبنانية لعام 1978، مجموعة الاحداث اللبنانية، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، الطبعة الأولى، 1979، ص50

[54] قسم البحوث والدراسات 3/10/2004www.aljazeera.net/special files

[55] السفير: جريدة سياسية يومية لبنانية، ليست عودة إلى جنيف ـ لوزان- الطائف، ولكن... ، طلال سلمان، نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 19/5/2008  على الصفحة الأولى

[56] هلال، محمد عبد الغني حسن، مهارات إدارة الأزمات، الأزمة بين الوقاية منها والسيطرة عليها، مركز تطوير الأداء والتنمية، الطبعة الثالثة، مصر، 2001، ص 136.

[57] كمال جنبلاط, لبنان وحرب التسوية, 1977 ص36

[58] دول البريكس وهي مختصر للحروف الأولى باللغة اللاتتينية. وهيالبرازيل وروسياوالهند والصين وجنوب أفريقيا. 

[59] المستقبل: جريدة سياسية يومية لبنانية، تاريخ 24 تشرين الأول 2014، العدد 5188، صفحة 8، إتفاق الطائف بعد ربع قرن على إعلانه ضرورة وطنية في مرحلة مصيرية.

[60] كتاب، التعامل مع النزاع، مجموعة من الباحثين، شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، مؤسسة الناشر للدعاية والإعلان، ص 12.

[61] قسم البحوث والدراسات 3/10/2004www.aljazeera.net/special files

[62] يوميات الحرب اللبنانية, منظمة التحرير الفلسطيني مركز التخطيط بيروت لبنان, 1977

[63] بركات، حليم عالم اجتماع واستاذ جامعي وروائي سوري. ولد في الكفرون في سورية عام 1933 

[64] المرجع السابق نفسه، بحث استطلاعي اجتماعي، من ص 113-120 

[65]  بركات، حليم المجتمع العربي المصارع، بحث استطلاعي اجتماعي دار الحياة  للطباعة والنشر والتوزيع ص 118 ص 65.

[66] مصدر سابق، قسم البحوث والدراسات 3/10/2004www.aljazeera.net/special files

[67] يوميات الحرب اللبنانية الجزء الثاني, منظمة التحرير الفلسطيني مركز التخطيط بيروت لبنان, 1977 ص 199

[68] سليم الحص, عصارة العصر, شركة المطبوعات للتوزيعات والنشر, 2004 ص 178

 

[69] كريم بقرادوني, لعنة ولكن من حرب لبنان الى حرب الخليج شركة المطبوعات للتوزيع والنشر, 2010 ص 289

[70] لينين كان ثوري روسي ماركسي وقائد الحزب البلشفي والثورة البلشفية، كما أسس المذهب اللينيني السياسي رافعاً شعاره الأرض والخبز والسلام.

[71] انطوان نصري مسرة، النظرية العامة في النظام الدستوري اللبناني، بيروت المكتبة الشرقية 2005 ص 158

 

[72] صيانة الدساتير في التحولات الديمقراطية، الخبرات العربية والدولية من منظور مقارن، بيروت المكتبة الشرقية 2014

[73] العلوم القانونية السياسية - النزاع الدولي ومستويات التحليل كتاب – "المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية" 11/12/2015  scjuripoli.blogspot.com

 


الجامعة اللبنانية

كلية الآداب والعلوم الإنسانية

         قسم التاريخ

 العمادة

 

التطور التاريخي لآليات حل النزاع

الحرب في لبنان نموذجاً (1975- 1989)

 

 

مشروع رسالة اعدّت لنيل شهادة الماجستر

في التاريخ الحديث

 

إعداد

وسام رعد

 

إشراف الدكتور احمد رباح

(أستاذ)

 

 

عضوا اللجنة

د. سعيد عبد الرحمن                                                 د. جويل الترك

     أستاذ                                                           أستاذ



     بيروت

2017 -2018